مع بدء سريان تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، بدأت مؤسسات عدة، لبنانية وعربية وأممية، التحضير لإعداد المسوحات العقارية والدراسات المالية والاقتصادية، لتقدير الأضرار والخسائر الناتجة عن الحرب المدمرة التي شملت مختلف المناطق اللبنانية وخصوصاً الضاحية الجنوبية لبيروت، وجنوب لبنان امتداداً للبقاع والحدود السورية، ولتقدير تكلفة إعادة الإعمار تمهيداً للتوجه نحو مؤسسات التمويل العربية والدولية للحصول على المساعدات المتاحة، وذلك في إطار صندوق يتوقع أن تطلقه الحكومة اللبنانية، بالتعاون مع البنك الدولي، على أن تودَع فيه جميع الهبات والمساعدات، وأن يكون البنك هو الجهة المسؤولة عن آليات الإنفاق، لتأكيد المصداقية والثقة المطلوبتين لتشجيع الجهات المانحة على المساعدة.

لكن بعض الخبراء والمهندسين وصفوا إنشاء الصندوق بأنه هروب من تهمة الصفقات وتوزيع الأموال على المحسوبيات، رغم أن الحكومة طرف أساسي لا يمكن الاستغناء عنه، ورغم أنه لا أحد غيرها لديه الأرشيف اللازم والوثائق والكوادر والإدارات المحيطة بالأوضاع العمرانية والمالية على مستوى لبنان.

وبما أن الصناديق لا تفعل شيئاً سوى صرف الأموال، يرى هؤلاء الخبراء من الأجدى تشكيل هيئة وزارية تشرف على تصنيف الحالات، وصرف الأموال لإعادة الإعمار. ومن هنا تبرز المشكلة التي تواجهها المؤسسات المعنية، والتي تكمن في ضعف المعطيات والأرقام المتاحة، وفقدان وزارة المالية قدرتها على إعداد البيانات التي تعكس الواقع الحقيقي، بسبب العوائق الإدارية من ناحية الإمكانيات البشرية والتكنولوجية. وفي هذا السياق، تضاربت أرقام خسائر الحرب، مع تفاوت كبير باختلاف مصادرها، من دون أن تستند لأي مسوحات أو دراسات رسمية.

ففي حين قدّر وزير الاقتصاد أمين سلام الخسائر بين 15 و20 مليار دولار، قدّرتها المؤسسة الدولية للمعلومات بنحو 11.2 مليار دولار.

أما البنك الدولي فقدّرها بنحو 8.5 مليار دولار، فيما أشار إلى فقدان نحو 166 ألف شخص لوظائفهم، بينما قدر وزير الاقتصاد عدد الفاقدين لوظائفهم بأكثر من 500 ألف شخص. وتبقى الخسارة الأكبر في الثروة البشرية، وهي أهم الموارد الاقتصادية للتنمية المستدامة، وفق تقرير الأمم المتحدة، وذلك بأعداد الشهداء والجرحى، والأضرار الاجتماعية والنفسية، والنزوح والهجرة.

وبما أن تنمية الاقتصاد تعتمد على الاستقرار الأمني والسياسي، الذي يتجذر في الحوكمة الرشيدة، فإن «الدبلوماسية الاقتصادية» يمكن أن تكون الطريق الأفضل للتمويل العربي والدولي لإعادة إعمار لبنان، واستعادة نموه وازدهار اقتصاده.

وانطلاقاً مِن طبيعة مهمة اللجنة الخماسية المكوَّنة برئاسة أميركا، وعضوية كل من فرنسا ولبنان وإسرائيل والأمم المتحدة، والمكلفة بالإشراف على تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، فإن هذا التطور لابد أن يأخذ بالاعتبار البيان الثلاثي السعودي الأميركي الفرنسي الصادر عقب اجتماع عقد في 21 سبتمبر 2022 في نيويورك، وشكّل خريطةَ طريق «ثلاثية» الأبعاد لتقديم الدعم المنشود للبنان. ويرتكز البيان على التزام لبنان باتفاق الطائف الذي يحفظ الوحدةَ الوطنية والسلم الأهلي، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن (1559 ،1680 ،1701، 2650) وغيرها من القرارات الدولية ذات الصلة، بما فيها تلك الصادرة عن جامعة الدول العربية.

ووفق البيان يجب انتخاب رئيس للجمهورية «يكون غير متورط في ملفات فساد، وغير محسوب على محور سياسي، ويتمتع بعلاقات سياسية جيدة مع دول الإقليم والمنطقة والمجتمع الدولي، وأن يحرص على توحيد الشعب اللبناني»، وذلك بالتوازي مع «تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات الهيكلية والاقتصادية المطلوبة بشكل عاجل، وتحديداً تلك الإصلاحات اللازمة للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي.

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية