تطوَّر عالَم الجريمة بشكل كبير وشهد تحولات كبيرة خلال العقود القليلة الماضية. وكانت سرقة أحد البنوك في الماضي تتطلب تخطيطاً دقيقاً، وترتيباً لوجستياً معقداً، وعملاً بدنياً محفوفاً بالمخاطر. أما اليوم، فقد غيرت التقنيات الحديثة طبيعة الأنشطة الإجرامية، ما مكّن الجناة من تنفيذ عمليات احتيال غير مسبوقة من غُرف جلوسهم أو من وراء شاشات مكاتبهم، وعلى بعد آلاف الأميال عن المكان المستهدف. ويتطلب هذا التحول الكبير في طبيعة الجريمة تطوراً مماثلاً في الآليات والأدوات التي تعتمدها أجهزة إنفاذ القانون.
ولتقديم مثال على هذا التحول، نذكر الحادثة التي حصلت في شهر يوليو الماضي في سنغافورة، إذ استطاعت من خلالها السلطات، بدعم من منظمة الإنتربول، استرداد أكثر من 40 مليون دولار أميركي في أعقاب عملية احتيال دولية بالبريد الإلكتروني المهني، أو ما يُعرف اختصاراً باسم (BEC).
وكانت شركة مقرها سنغافورة قد تلقت رسالة إلكترونية من أحد الموردين يطالبها بتحويل مبلغ إلى حساب مصرفي جديد في تيمور-ليشتي. ولكن الرسالة كانت واردة من حساب احتيالي اختلفت طريقة كتابته بشكل طفيف للغاية عن عنوان البريد الإلكتروني الرسمي للمورد. وحولت الشركة، التي كانت غافلة عن الأمر، المبلغ إلى المورد المزيف لتكتشف أنها وقعت ضحية احتيال بعد ذلك بأربعة أيام، وذلك عندما أفاد المورد الأصلي بعدم تلقيه المبلغ.
وتقدمت الشركة بشكوى لدى السلطات المحلية، وسارعت شرطة سنغافورة إلى طلب المساعدة من السلطات المختصة في تيمور-ليشتي عن طريق آلية الإنتربول العالمية لوقف المدفوعات بسرعة (I-GRIP)، إذ تستعين هذه الآلية بأجهزة إنفاذ القانون في البلدان الـ196 الأعضاء في منظمة الإنتربول من أجل تسريع وتيرة طلبات المساعدة في قضايا الجرائم المالية.
وبعد ذلك بأيام قليلة استطاعت السلطات في تيمور-ليشتي تجميد المبلغ في الحساب المصرفي للمورد المزيف، وقامت باعتقال سبعة أشخاص يشتبه في صلتهم بعملية الاحتيال، واتخذت خطوات لإعادة الأموال المسروقة إلى الشركة الضحية في سنغافورة.
وتسلط هذه الحادثة –وغيرها الكثير– الضوء على الجانب المظلم لتطور التقنيات وتقدمها، والحاجة الملحة لوكالات إنفاذ القانون إلى تحديث وابتكار أدواتها بغية مواكبة مشهد الجريمة المتغير، وتعكس أهمية التركيز على تطوير آليات استباقية للتعامل مع التطورات التي يشهدها عالَم الجريمة، وخاصة الإلكترونية والسيبرانية منها.
وندخل اليوم بُعداً جديداً من الهجمات ضد مجتمعاتنا. وفي وقت تتزايد فيه الأنشطة الإجرامية تعقيداً وقدرة على عبور الحدود الوطنية للدول، وفي عالَم باتت فيه آليات الذكاء الاصطناعي هي الحليف الأقوى لعصابات الجريمة والاحتيال، كثيراً ما تكون الأساليب التقليدية لضبط الأمن غير كافية.
ومع استمرار الذكاء الاصطناعي في اجتياح العالم وإحداث ثورة في كيفية عمل قطاعات كبيرة من المجتمع، يتضح أكثر فأكثر أن هناك الكثيرين ممن يحاولون استغلال إمكانياته وتوسيع الممارسات الاحتيالية التي كانت تَحدث وجهاً لوجه، إذ يُمكِّن ما يعرف باسم «الذكاء الاصطناعي التوليدي» العمليات الإجرامية على «نطاق صناعي»، بما في ذلك التزييف العميق، والمحاكاة الصوتية، والتوثيق الاحتيالي، ما يشكل تحديات كبيرة لوكالات إنفاذ القانون على مستوى العالم، وتهديدات متزايدة للدول، بما في ذلك سرقة المعلومات والبيانات الحساسة، إضافة إلى جرائم التصيد الاحتيالي، والعديد من الأنشطة غير الشرعية.
وتدرك منظمة الإنتربول، بصفتها أكبر منظمة عالمية لإنفاذ القانون، الحاجة إلى تطوير الذكاء الاصطناعي وتسخيره وتطويعه على نحو مسؤول بُغية ضمان الاستفادة القصوى من فوائده، والتقليل من مخاطره وتهديداته، إذ يقدم الذكاء الاصطناعي حلولاً قوية قادرة على تعزيز إمكانيات التنبؤ بالجرائم، ومنعها، والاستجابة لها بشكل أكثر فاعلية.
ويعكس مختبر الإنتربول للذكاء الاصطناعي المسؤول (I-RAIL) التزامنا بتطوير تقنيات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي بطريقة أخلاقية وشفافة ومسؤولة في جميع الدول الأعضاء في المنظمة، إذ يعمل مختبر الإنتربول مركزاً للبحث والابتكار، ويضم خبراء من مختلف المجالات يعملون على استكشاف فرص الذكاء الاصطناعي وإمكانياته، من دون إغفال آثارها وأبعادها غير الأخلاقية.
وتجسد مجموعة أدوات الذكاء الاصطناعي الخاصة بالمنظمة (AI Toolkit)، التي أُطلِقت في يونيو 2023 بالتعاون مع معهد الأمم المتحدة الإقليمي لبحوث الجريمة والعدالة، وبتمويل من المفوضية الأوروبية، مساعينا الجادة إلى تزويد وكالات إنفاذ القانون بأفضل الأدوات المتاحة بغرض تعزيز قدراتها عن طريق الاستفادة من الذكاء الاصطناعي للمساعدة في مختلف جوانب العمل الشرطي، من تحليل مسرح الجريمة وتقييم المخاطر، وصولاً إلى العمل الشرطي الاستباقي. ويمكن لوكالات إنفاذ القانون، عبْر دمج هذه الأدوات في عملياتها، تعزيز قدراتها في مجال التحقيقات، وتبسيط العمليات، والحصول على نتائج أفضل.
وفي المقابل يهدف مركز الإنتربول للابتكار، في مكتبنا بسنغافورة، إلى إجراء البحوث وتطوير واستخدام أحدث الأدوات والأساليب المعتمدة في مجال مكافحة الجريمة الدولية. ويجمع المركز أكاديميين ومحللين وموظفين من أجهزة إنفاذ القانون وأخصائيين في مجال التكنولوجيا لاستشراف المستقبل، وتوقع التحديات، ووضع الاستراتيجيات، وتقديم حلول تقنية جديدة بما في ذلك تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
وإضافة إلى ذلك تُمثِّل أكاديمية الإنتربول الافتراضية قفزة كبيرة في جهودنا لتسليح كوادر إنفاذ القانون بالمعارف والمهارات اللازمة لتسخير تقنيات الذكاء الاصطناعي لمصلحة العمل الشرطي. وعبْر هذه المنصة تقدم منظمة الإنتربول برامج تدريبية شاملة تغطي جوانب مختلفة من تقنيات الذكاء الاصطناعي، من المبادئ الأساسية إلى التطبيقات المتقدمة، وتُمكّن أفراد الشرطة في جميع أنحاء العالم من استثمار هذه التقنيات في عملياتهم اليومية، وتعزيز فاعليتهم وكفاءتهم.
ومن الواضح أن الذكاء الاصطناعي سيواصل الانتشار في عالمنا، وستكون له أهمية متزايدة في دعم جهود إنفاذ القانون. لكنَّ الاستغلال الناجح لتطبيقات الذكاء الاصطناعي يتطلب التعاون والتنسيق بين جميع الجهات المعنية، فعلى سبيل المثال تستطيع السلطات، عن طريق نشر نماذج الشرطة الوقائية التي يدعمها الذكاء الاصطناعي وتوظيفها، تحديد المناطق ذات المخاطر العالية للجريمة بشكل استباقي، وتتبُّع الجناة، وملاحقتهم بطريقة أكثر فاعلية. وإضافة إلى ذلك يُسهِّل دمج الذكاء الاصطناعي إمكانية مراقبة أنشطة الشبكة المظلمة (أو ما يُعرف بـDark Web) المتعلقة بمرتكبي الجرائم الجنسية والمالية والإرهابيين، ما يوفر استجابة استباقية ضد التهديدات المحتملة.
ولا شك أن لممارسات الذكاء الاصطناعي أهميةً استراتيجيةً كبيرةً، ودوراً حيوياً للنهوض بقدرات أجهزة إنفاذ القانون. ومن خلال مساعينا نحو تسخير قوة هذه التقنيات وإمكانياتها، يمكننا دعم العمل الشرطي الحديث لدى أجهزة إنفاذ القانون حول العالم. وهنا يجب على الحكومات ووكالات إنفاذ القانون العمل مع الجهات المعنية، والتنظيمية، ومقدمي التقنيات، والشركاء لتطوير آليات تعزز الاستخدام المسؤول لهذه التطبيقات، ووضع السياسات واللوائح، والاستثمار في البحث والتطوير، من أجل بناء منظومة رادعة تَحدُّ من الأنشطة غير القانونية التي يرتكبها المجرمون والإرهابيون الذين يستغلون هذه التقنيات الحديثة لتحقيق مآربهم.
ومن خلال مواصلة الابتكار والتعاون، نحن على ثقة بأننا سنكون قادرين على مواجهة تحديات الغد، وبناء مستقبل يضمن أمن مجتمعاتنا وسلامتها.
*رئيس المنظمة الدولية للشرطة الجنائية «الإنتربول»، المفتش العام لوزارة الداخلية بدولة الإمارات