(65) أَرَى كُلَّنَا يَبْغِي الحَيَاةَ بِسَعْيِهِ * حَرِيصاً عَلَيْهَا مُسْتَهَاماً بِهَا صَبَّا
رُوِيَ البيت بكلمة: (بِجَهدِهِ)، بدلاً من (بِسَعيِهِ).
مُسْتَهَامٌ: عاشقٌ، وَلْهانُ، هائمٌ، غارِقٌ في الحب. والمستهامُ والصَبُّ بمعنى واحِدٍ.
والصَّبُّ: ذو الشوقِ الدائمِ للمحبوبِ، العاشقُ، المُولعُ، رقيقُ القلبِ. 
في القرآن الكريم: (وإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ). ومعنى أَصْبُ إِليهِنَّ: أي أَرضَخُ إِليهِنَّ.
ومعنى البيتِ: أنَّ كلَّ واحدٍ مِنَّا مُحِب للحياة، حُبَّ عِشقٍ، وولهٍ، وهيامٍ، وميلٍ، واشتياقٍ، يعمل كُلَّ ما يستطيع للازدياد منها، وكُلَّ ما يجعله يبتعِد عن مفارقة الدُنيَا، ويُمكِّنُهُ مِنَ البَقَاءِ حَياً.
وفي ذلك يقول المتنبي، في بيتٍ آخرَ:
ولَذِيذُ الحَيَاةِ أَنْفَسُ فِي النَّفْـ * ــسِ وأَشْهَى مِن أَنْ يُمَلَّ وأَحْلَى

(66) فَحُبُّ الجَبَانِ النَّفْسَ أَوْرَدَهُ التُّقَى * وحُبُّ الشُّجَاعِ النَّفْسَ أَورَدَهُ الحَرْبَا
يقول الشاعرُ: إنَّ مَحبَّةَ الجَبانِ لنَفْسِه، هي التي دَفَعتْه للهَرَبِ من المُواجَهةِ، والفِرارِ من القتالِ مخافةَ الموتِ، أيْ محبةً لمُلازمة الحياةِ، والبقاءِ في الدُّنْيا. 
وقولُه (أورَدَهُ التُّقَى): يعني جَعَلَه يَسْلُك طريقَ اتِّقَاءِ الحَرْبِ، وتجنُّبِ القِتالِ. كما أن مَحبَّةَ الشُّجاعِ الجَسُورِ المِقدامِ لنَفْسِه، هي التي جعلتْه يُقبِلُ على خوضِ الحربِ، دفاعاً عن نَفْسِه، ليُحَقِّقَ لها أَمْنَهَا بمُغالَبِةِ العَدُوِّ الذي يَخْشى أن يَسْلُبَ حياتَه إذا قَعَدَ ولم يُقاتِلْ!
وفي المعنى ذاتِه قولُ الحُصينِ بن الحمام: 
تَأخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الحَياةَ فلَمْ أَجِدْ * لِنَفْسِي حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا
وقولُ الخنساءِ: 
نُهِينُ النُّفوسَ وهَوْنُ النُّفو * سِ يَومَ الكَريهَةِ أَبقَى لَهَا
وعندما وَدَّعَ أبو بكر الصديق، خليفةُ رسولِ الله، قائِدَ جيشِه، خالدَ بن الوليد، وهو مُتَّجِهٌ لحَرْبِ المُرْتَدِّين، قال له: (اُطْلُبِ المَوْتَ، تُوهَبْ لكَ الحياةُ). 
ومن ذلك قولُ أبي تمَّام:
ومَضَوا يَعُدُّونَ الثَّناءَ خُلُودَا
أي: يعتبرون ذِكْرَهم الحَسَنَ، والثَّناءَ على أفعالِهم الكريمةِ، سبباً لخُلودِهم وبقائِهم بعدَ موتِهم.
(67) ويَختَلِفُ الرِّزقَانِ والفِعْلُ وَاحِدٌ * إِلى أَن تَرَى إِحسَانَ هَذا لِذَا ذَنْبَا
يقول الشَّاعرُ: قد يَفْعَلُ اثنان من الناسِ العَمَلَ ذاتَه، فيكونُ هذا العملُ للأوَّلِ رِزْقاً، وللثاني حِرْماناً، فكأنَّ سببَ رِزْقِ أحدِهم، هو ذاتُه السببُ الذي حُرِم به الآخرُ.
يقول ملاطم بن عوف الفزاري:
وَكَمْ مِنْ مَوقِفٍ حَسَنٍ أُحِيلَتْ * مَحَاسِنُه فعُدَّ مِنَ الذُّنُوبِ
وللبُحتُريِّ:
إِذَا مَحَاسِنِي اللاتِي أُدِلُّ بِها * كانَت ذُنُوبِي فَقُل لِي كَيفَ أَعتَذِرُ
ولابنِ الأعرابيِّ:
يَخيبُ الفَتَى مِن حَيثُ يُرزَقُ غَيرُهُ * ويُعطَى المُنَى مِن حَيثُ يُحرَمُ صَاحِبُه

(68) وَمَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا طَوِيلًا تَقَلَّبَتْ * عَلَى عَيْنِهِ حَتَّى يَرَى صِدْقَهَا كِذْبَا
وهذا واحدٌ من أبياتِ أبي الطيب السائرةِ التي يتناقَلُها الناسُ على مَرِّ أجْيالِهم.
وقوله: ( وَمَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا)، يريدُ صَحِبَها بعَيْشِه في وَسَطِ أحداثِها، ومُعاصَرَةِ تجارِبِها.
طَوِيلًا: إمَّا طويلاً في عُمُرِه، بحيث يكون قد صَحِبَ الدُّنيا طويلاً نظراً إلى طول عمره، وإمَّا أنَّ طولَ صُحْبَتِهِ لها مَكَّنَه من أن يعيشَ أحداثاً كثيرةً.
تَقَلَّبَتْ: أيْ الدنيا، وذلك بتردُّدِها بين نَعيم وشقاء، وبينَ صعود وهبوط، فتختَلِفُ أحوالُها وأمورُها.
عَلَى عَيْنِهِ: أيْ على مرأَى مِمَّنْ صحِبَ الدُّنيا، وأمامَ نَظَرِه، وبمُشاهَدَتِه.
حَتَّى يَرَى صِدْقَهَا كِذْبَا: أيْ إن الدُّنيا تستمِرُّ في تَقَلُّبَاتِها، وتحوُّلَاتِها، واختلافِ أمورِها، وتَبَايُنِ أحوالِها، ولا تَتَوَقَّفُ عن ذلك، حتَّى تَجْعَلَه يرى بعَيْنِه صِدْقَها كَذِباً، وذلك بكثرة تَقَلُّبِها بشكْلٍ لا يمكِنُ التنبُّؤُ به، ولا مُحاولَةُ قراءتِه أو تَخَيُّلِه.
والمعنى: أنَّ مَنْ عَرفَ الدُّنيا عبر سبيلِ صُحبَتِها، أيْقَنَ أنَّ لحظاتِ السُّرورِ فيها، ستتحوَّلُ إلى لحظاتِ شُرورٍ، فكأَنَّ سُرُورَها صِدْقُهَا، وتحوُّلَها إلى الشُّرورِ كَذَّبَ هذا الصِّدقَ الذي تحوّل بسُرْعةٍ إلى ضِدِّه وعَكْسِه، فصارَ حينئذٍ كَذِباً.
وفي البابِ نفسِه، بيتُ أبي نواس، القائلُ:
إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ * لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي ثِيَابِ صَدِيقِ