بالنسبة لأوروبا، فهذه لحظة حرجة؛ فالولايات المتحدة، التي ضمنت الأمن الأوروبي إزاء الاتحاد السوفييتي ثم وريثته روسيا لمدة 80 عاماً، يبدو أنها غيّرت موقفَها تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب. لا يوجد ما يرمز إلى هذا التحول أكثر من التصويت الذي شهدته الأمم المتحدة مؤخراً، في الذكرى السنوية لاندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. فقد انضمت الولايات المتحدة إلى 17 دولة، من بينها كوريا الشمالية والسودان وبيلاروسيا، في التصويت ضد قرار يدين الهجوم الروسي. ويبرر ترامب سياستَه الجديدة بحجة أنه يجب أن يكون محايداً للتفاوض على إنهاء الحرب.

ومع ذلك، لا يتردد في توجيه إدانة شديدة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إذ وصفه بأنه ديكتاتور، دون أن يوجه انتقادات مماثلة لروسيا. وحتى قبل انهيار قمة ترامب وزيلينسكي في البيت الأبيض وتحولها إلى مشادة كلامية قاسية، وقرار ترامب المفاجئ بوقف جميع المساعدات الأميركية لأوكرانيا، كان المستشار الألماني المنتخب حديثا، فريدريش ميرتس، يتحدث عن الحاجة إلى «تعزيز أوروبا بأسرع ما يمكن، حتى نحقق الاستقلال عن الولايات المتحدة».

ويوافقه الرأي «أندرس فوج راسموسن»، الأمين العام السابق لحلف «الناتو»، الذي كتب في مجلة «الإيكونوميست»: «يجب على أوروبا أن تتقبل حقيقة أننا لسنا فقط معرّضين للخطر بشكل وجودي، بل أيضاً على ما يبدو وحيدين». إن أوروبا تبذل بالفعل الكثيرَ لتحسين قدراتها العسكرية، فقد ارتفعت نفقات الدفاع بين الأعضاء الأوروبيين في «الناتو» بنسبة 50% خلال عام 2024 مقارنةً بعام 2014 (عندما قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم)، وتخطط لمزيد من الزيادات في الإنفاق. ورغم أن الولايات المتحدة كانت أكبر مانح عسكري لأوكرانيا بشكل عام، فإن أوروبا قدمت في عام 2024 مساعدات عسكرية أكثر مما قدمته واشنطن. لكن الأمر سيتطلب أكثر من مجرد المال لكي تتمكن أوروبا من الدفاع عن نفسها دون مساعدة أميركية. إنه يتطلب ثورة سياسية تؤدي إلى إنشاء جيش أوروبي.

تمتلك أوروبا القوةَ اللازمة للدفاع عن نفسها. فقد أنفقت 457 مليار دولار على الدفاع في عام 2024، مقارنةً بـ145.9 مليار دولار أنفقتها روسيا. وحتى بعد تعديل هذه الأرقام حسب القوة الشرائية، فإن إجمالي إنفاق روسيا على الدفاع، والذي يبلغ 462 مليار دولار، يعادل تقريباً إنفاق أوروبا. علاوة على ذلك، تمتلك أوروبا نحو مليوني فرد في الخدمة العسكرية الفعلية، وهو عدد أكبر بكثير من روسيا (1.3 مليون). كما أن لديها شركات دفاع عالمية المستوى مثل «بي إيه إي»، و«إيرباص»، و«ليوناردو»، و«تاليس»، و«راينميتال»، و«ساب».لكن أوروبا تبدو قوية فقط على الورق، أما في الواقع فإن معظم الجيوش الأوروبية غير مستعدة للقتال.

فهي تفتقر ليس فقط إلى الإمكانيات الحاسمة التي توفرها الولايات المتحدة، بما في ذلك القيادة والسيطرة والاتصالات والاستخبارات والخدمات اللوجستية والنقل الجوي، ولكنها تفتقر أيضاً إلى القدرة القتالية التي تتمتع بها القوات البرية الأميركية. وتشير دراسة حديثة صادرة عن مركزين أوروبيين للأبحاث (معهد بروجيل ومعهد كيل للاقتصاد العالمي) إلى أنه لتعويض غياب القوات الأميركية في حالة الحرب، ستحتاج أوروبا إلى «ما لا يقل عن 1400 دبابة، و2000 مركبة قتال مشاة، و700 قطعة مدفعية».

وهو ما يمثل قوة قتالية تفوق إجمالي القوة القتالية للجيوش الفرنسية والألمانية والإيطالية والبريطانية مجتمعة. وخلصت الدراسة إلى أنه لسد هذه الفجوة في القدرات، تحتاج أوروبا إلى إنفاق 250 مليار دولار إضافية سنوياً، مما يرفع الإنفاق الدفاعي من 2.2% إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية سيكون شبه مستحيل، طالما أن عمليات شراء الأسلحة لا تزال مقسّمة بين 29 دولة أوروبية عضواً في «الناتو». وكما أشار تقرير صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في عام 2022، فإن «القوات المسلحة الأوروبية تعاني من تكرار غير ضروري في العتاد، حيث تمتلك 29 نوعاً مختلفاً من المدمرات، و17 نوعاً من الدبابات الرئيسية، و20 نوعاً من الطائرات المقاتلة، مقارنة بأربعة أنواع، ونوع واحد، وستة أنواع، على التوالي، لدى الولايات المتحدة».

لقد بدأت أوروبا في اتخاذ خطوات صغيرة منذ سنوات لتوحيد بعض صناعاتها العسكرية، وكان هناك حديث منذ الخمسينيات عن إنشاء جيش أوروبي مشترك. لكن لم يتم تحقيق سوى القليل، جزئياً لأن الدول الأوروبية كانت مرتاحة للاعتماد على المساعدة الأميركية، وجزئياً لأن الولايات المتحدة أصرّت على إبقاء القدرات الدفاعية ضمن هيكل «الناتو» الذي تهيمن عليه. والآن، وبعد أن لم تعد إدارة ترامب تبدو مهتمةً بدور الولايات المتحدة كضامن للأمن الأوروبي، يجادل ماكس بيرجمان، مدير برنامج أوروبا وروسيا وأوراسيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، في ورقة سياسات جديدة بأن الوقت قد حان «لإعادة النظر في فكرة» الجيش الأوروبي. ويطرح بيرجمان أجندة طموحة، لكنها عملية، وهو يقر بأن «العمود الفقري لدفاع أوروبا سيظل جيوشها الوطنية الكبرى»، مشيراً إلى فرنسا وبولندا وألمانيا والمملكة المتحدة والدول الاسكندنافية مثل السويد وفنلندا.

ومع ذلك، وحتى مع وجود هذه الجيوش، يجب على أوروبا أن تبذل جهداً أكبرَ لمزامنة مشترياتها من العتاد العسكري، مما يعزّز القدرة التشغيلية المشتركة ويقلّل من تكاليف الإنتاج. ويقترح بيرجمان أن تُستكمل هذه القوات الوطنية بقوة أوروبية للتدخل السريع، قوامها 60 ألف جندي في البداية، يتم تجنيدهم من جميع أنحاء القارة بدلاً من أن تكون قوات دورية من الجيوش الوطنية. وبينما ستظل الجيوش الأوروبية الكبرى قائمة، يقترح أن يتم دمج الجيوش الأوروبية الأقل قدرة في كيان مشترك تابع للاتحاد الأوروبي، مع احتفاظ الدول الفردية فقط بقوات على غرار الحرس الوطني للتعامل مع الاضطرابات المدنية والكوارث الطبيعية. ويشير بيرجمان إلى أنه «بالنسبة لكثير من الأوروبيين، فإن فكرة إنفاق مبالغ كبيرة لتعزيز جيوشهم الصغيرة نسبياً تبدو غير منطقية». وفي الوقت الحالي، تعتمد أوروبا على مقر قيادة تابع لحلف الناتو، يقوده جنرال أميركي لتوجيه قواتها في زمن الحرب.

ويقترح بيرجمان أن تقوم أوروبا بإنشاء مقر عسكري خاص بها، يقوده جنرال أوروبي يمكن أن يَشغل في الوقت ذاته منصب نائب القائد العام لحلف الناتو، مما يحافظ على الروابط مع التحالف الأطلسي. ويضيف أنه من خلال العمل معاً، ستحتاج الدول الأوروبية إلى تطوير قدرات مشتركة، «مثل النقل الجوي، وطائرات التزود بالوقود في الجو، والاستخبارات، والقدرات الاستهدافية، والقيادة والسيطرة المتكاملة.. وهي القدرات التي كانت الولايات المتحدة توفرها».

ومن الواضح أن هذا مشروع طويل الأمد، مما يجعل من الضروري للغاية البدء بتنفيذه في أقرب وقت ممكن. وأود أن أضيف أن أوكرانيا يمكن أن تكون ركيزةً أساسية في هذه القدرة الدفاعية الأوروبية الشاملة الناشئة.

فمع ما يقرب من مليون جندي تحت السلاح، تمتلك أوكرانيا أكبر جيش وأكثره خبرة قتالية في أوروبا (باستثناء روسيا، بالطبع). كما أن لديها صناعة دفاعية متنامية، حيث أنتجت العام الماضي 1.5 مليون طائرة مسيّرة. ولكي تتمكن أوكرانيا من البقاء على المدى القصير دون مساعدة أميركية، ستحتاج أوروبا إلى تسريع إنتاجها الدفاعي على أساس زمني طارئ، بينما تحاول شراء أسلحة أميركية لأوكرانيا، بافتراض أن ترامب سيوافق على بيعها. ويجادل بيرجمان بأن إنشاء جيش أوروبي لن يتطلب تعديل معاهدة الاتحاد الأوروبي، لكنه بالتأكيد سيتطلب تغيير العقلية الأوروبية. كان من غير المتصور ذات يوم أن تقوم الدول الأوروبية بدمج جيوشها. لكن كان من غير المتصور أيضاً أن تتخلى الولايات المتحدة عن أوروبا في مواجهة روسيا. وبما أن هذا الاحتمال الأخير بات يبدو أكثر واقعية بشكل مقلق، فقد حان الوقت للأوروبيين لوضع الاعتبارات المتعلقة بالكبرياء الوطنية جانباً، والعمل معاً لإنقاذ قارتهم من الخطر المحدق.

ماكس بوت*

*كاتب وباحث أميركي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»