تناولت المقالة الماضية «سياسات التعريفة الجمركية»، وركّزت على ما لها من تأثير سلبي على التجارة العالمية، وانقلابها على مبادئ تحرير التجارة، التي صنعت للولايات المتحدة تفردَها وتميزَها الاقتصادي. كما أشارت المقالة إلى غياب الرشادة عن هذه السياسة، لأنها سوّت بين الحلفاء والخصوم، مما ضيّع على الولايات المتحدة فرصةَ التكتل مع حلفائها ضد مَن تعتبرهم منافسين وخصوماً.

وقد تسببت قرارات البيت الأبيض بهذا الخصوص في ردود فعل قوية من حلفاء وجيران، ناهيك عن الصين التي عاقبها على ردود فعلها بمزيد من الرسوم، علاوة على المعارضة القوية لهذه القرارات داخل الولايات المتحدة ذاتها، فضلاً عن الانهيارات التي حصلت في سوق الأسهم والسندات، الأمر الذي دفع ترامب إلى تعليق رسومه الجمركية الإضافية لمدة 90 يوماً عن جميع الدول، عدا الصين التي تخطت الرسوم المفروضة عليها حاجز الـ100٪‏، مع ما قيل إنه إشعار جمركي صدر الجمعة الماضي يستثني الرقائق والهواتف وأجهزة الكومبيوتر من التعريفات الجمركية لجميع البلدان بما في ذلك الصين. ومعلوم أن الولايات المتحدة تحصل على ثلاثة أرباع احتياجاتها من الهواتف وشاشات الكومبيوتر وأجهزة الألعاب من الصين.

وأعادت هذه التطورات إلى الجدل وجهةَ النظر، التي رأت أن الهدف من قرارات ترامب تفاوضي، بمعنى أنه يعلم منذ البداية أن تعريفاته الجمركية، المُبالغ فيها، لا يمكن أن تدوم، وإنما هو يأمل من ذلك أن يدفع الدولَ إلى التفاوض معه، بحيث ينتهي التفاوض إلى تخفيض التعريفات، لكن إلى مستوى يحقق فوائد للولايات المتحدة أفضل، ربما بكثير مما كانت تحصل عليه قبل فرض التعريفات.

وهو تكتيك يعرفه المفاوضون جيداً، ويعني أنك لكي تحقق هدفك يجب أن تبدأ المفاوضات بعرض مبالغ في تشدده، على أساس أنك طالما انخرطت في مفاوضات فلابد أن تقدم تنازلات، لأنك لو كنت تستطيع تحقيق كل مطالبك من دون تفاوض فلماذا تلجأ إليه أصلا؟ ومادام تقديم التنازلات حتمياً، فلتبدأ مطالبك بسقف مرتفع للغاية، بحيث لا تمس تنازلاتك بهدفك الأصيل من المفاوضات. وقد كان مساعدو ترامب ينفون أي شبهة لكون قراراته تكتيكاً تفاوضياً، وهذا جزء مكمل للتكتيكات التفاوضية بإظهار استحالة تقديمك تنازلاتٍ حتى تجبر خصمك على محاولة إغرائك بتقديم تنازلات، ورغم سلامة هذه الفكرة من حيث المبدأ فإن تطبيقها في حالة فرض رسوم جمركية له خصوصية.
في المفاوضات السياسية يدور كل شيء في غرف مغلقة، ولا تظهر المطالب الابتدائية للأطراف ثم التنازلات المتبادلة إلا في نهاية العملية التفاوضية، وبالتالي فإن أثر التحركات التكتيكية التي تقوم بها الأطراف لا يظهر إلا في النهاية، وبعد اكتمال العملية، فيحتفي بها الطرف الذي يعتبر أنه انتصر، ويسخط عليها مَن يعتقد أنه الخاسر. أما في حالتنا، فإن التحركات التفاوضية قد أحدثت آثارَها أثناء عملية التفاوض الافتراضية هذه، إذ تسببت في خسائر هائلة رأينا جميعاً أنها لم تقتصر على المستهدفين بالتحركات، وإنما طالت مَن قام بها أيضاً، الأمر الذي يشكك في حكمتها. 
والأخطر من ذلك هو الاتهامات، التي بدأت تظهر وخلاصتها أن الأمر غير ذي صلة بتحركات تفاوضية تهدف لتحقيق المصلحة العامة، وإنما هو خطة مرسومة كي يحقق واضعوها أرباحاً هائلة تنجم عن السقوط الكبير في قيمة الأسهم، فيشتريها مَن يعرفون أن ثمة تراجعاً سيحدث في الرسوم الجمركية يفضي إلى عودة ارتفاع الأسهم وتحقيق الأرباح الطائلة.
*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة