في قلب القارة الأفريقية، يقف السودان على حافة الانهيار، غارقاً في صراع داخلي دموي كشف عجز القيادات السياسية والعسكرية عن إدارة الدولة، وأجهض ما تبقى من أمل في التنمية والاستقرار.  
ضمن هذا السياق المضطرب، فاجأت القوات المسلحة السودانية العالَم بتقديم دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد دولة الإمارات. وهي دعوى، من حيث الشكل، تحمل غلافاً قانونياً، لكنها من حيث المضمون، محاولة مكشوفة لتوظيف القضاء الدولي كأداة لتصدير الأزمة وتبرئة الذات من المسؤولية السياسية والأخلاقية عن كارثة السودان الحالية.
دولة الإمارات، التي نفت الاتهامات جملةً وتفصيلاً، استندت إلى قواعد القانون الدولي، مؤكدةً أن كل ما قدمته للسودان منذ اندلاع النزاع في أبريل 2023 كان في إطار المساعدات الإنسانية، وأنها لم تدعم عسكرياً أيَّ طرف، بل واصلت أداءَها كوسيط محايد، مشارِكةً في جهود السلام عبر منصات متعددة، كان أبرزها مبادرة «متحالفون لإنقاذ الحياة والسلام»، بهدف وقف إطلاق النار والعودة إلى الحوار السياسي.
 الدعوى افتقرت إلى الحد الأدنى من الأدلة المقبولة أمام المحاكم الدولية، مع غياب الوثائق أو الشهادات المستقلة التي تثبت الادعاءَ بدعم عسكري مباشر. وقدمت الإماراتُ مذكراتٍ قانونيةً دحضت فيها الاتهامات، مستندةً إلى تحفّظها المسبق على المادة 9 من اتفاقية منع الإبادة الجماعية، الأمر الذي يثير تساؤلات حول دوافع القوات المسلحة السودانية الحقيقية من وراء هذه الدعوى، لا سيما في ظل عزلة سياسية متزايدة يواجهها النظام في بورتسودان، وتراجع مصداقيته أمام المجتمع الدولي والمحلي.
الدعوى تأتي، أيضاً، في وقت باتت فيه القوات المسلحة السودانية محاطة باتهامات أممية موثقة بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المدنيين، بما في ذلك استخدام العنف المفرط، والتجنيد القسري، والاعتداء على المناطق المدنية.
لكن هذه الحملة لم تغير موقف الإمارات، التي أكدت أن ما يجمعها بالسودان ليس لحظة ظرفية، بل مسار تاريخي من العلاقات الممتدة، تعود إلى بدايات قيام دولة الإمارات، واستمرت عبر عقود من التعاون والتضامن. وقد احتضنت الإمارات مئات آلاف السودانيين، وساندت جهود التنمية في السودان، وأطلقت مبادرات إنسانية متعددة دون اشتراطات ولا أجندات.
والسؤال هنا لا يتعلق فقط بمدى شرعية الاتهامات، بل بكيفية استخدام أدوات العدالة الدولية لتحقيق مكاسب سياسية مؤقتة على حساب الحقيقة. فحين تتحول لاهاي من منصة قانونية إلى منبر دعائي، فإن ذلك يفتح الباب أمام موجة جديدة من تسييس القضاء، وهو اتجاه خطير في العلاقات الدولية.
لقد بات واضحاً أن القوات المسلحة السودانية، وبدلاً من الانخراط الجاد في مصالحة وطنية شاملة، تمضي في مسار تصعيدي ضد شركاء إقليميين كانوا دوماً إلى جانب الشعب السوداني، مما يضع السودان على سكة العزلة الدولية.
 ورغم ذلك، فالإمارات لا تنساق للرد الدعائي، بل تؤكد عبر مواقف متزنة أنها تضع مصلحةَ الشعب السوداني فوق كل اعتبار. وتواصل دعمها الإنساني والسياسي والدبلوماسي، إدراكاً منها بأن ما يحدث اليوم ليس سوى فصل مأساوي عابر في تاريخ السودان.
وأخيراً يتبدّى السؤال الكبير: هل يمكن حقاً للأكاذيب أن تصنع عدالة؟ وهل تكفي محاولات طمس الحقيقة لتغيير الوقائع؟ المؤكد أن العلاقات بين الشعوب لا تهتز باتهامات باطلة، ولا تتأثر ببيانات سياسية عابرة.. والسودان، بكل ما يملكه من إرث وثروات، يستحق قيادة تفكّر في مستقبله لا في مناورات سلطوية قصيرة الأمد.  
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة