لا شيء يوازي شعور المبدع حين يلامس صدى كلماته وعي المؤسسة، فيُحتفى بفكرته لا بشهرته، وبجرأته لا بانتمائه، وبمشروعه لا بسيرته. تلك هي اللحظة النادرة التي لا تصنعها الرغبة في الجوائز، بل تصنعها لحظة التقاء الإبداع الصادق مع مؤسسات تُجيد الإصغاء لما هو نوعي، متجاوِز، ومؤثر. هذا ما أحسسته، بعمقٍ ومسؤولية، وأنا أتسلم جائزة الشيخ زايد للكتاب عن فرع «التنمية وبناء الدولة»، في دورتها التاسعة عشرة، عن مؤلَّفي «حق الكدّ والسعاية». في عالمٍ عربيٍ يئنّ تحت وطأة الأزمات، ويكاد يُحاصر فيه المثقّف بين الصمت والهامش، تأتي الجوائز الثقافية الكبرى كفسحة ضوء، لا لتتويج المبدعين فحسب، بل لتحرير الطاقات الخلاقة، وإعادة الاعتبار لقيمة الفكر في بناء المجتمع. ذلك أن الجائزة الحقيقية لا تُمنح فقط لنص مكتمل، بل تُعطى لفكرة قادرة على التوسّع، ولإرادة لم تتنازل أمام الجاهز، ولرؤية تملك أن تكون جزءاً من تحويل الواقع.
من هنا، فإن الجوائز ليست نهاية المطاف، بل بدايات جديدة تمنح للمفكر شرعية عامة، وللكلمة امتداداً مؤسسياً، وللثقافة حقّها في التأثير. وجائزة الشيخ زايد للكتاب، في هذا السياق، ليست جائزة مثل غيرها.
إنها تتجاوز المفهوم الاحتفالي، لتكون عنواناً لمشروع دولة استثنائية في رهانها على الثقافة. فأن تحمل الجائزة اسم الوالد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، فذلك بذاته تكثيف رمزي لرؤية تنموية جعلت من الفكر رافعة للمجتمع، ومن دعم المبدعين جزءاً من البناء الحضاري. هذه الجائزة لم تُنشأ للتكريم فقط، بل لتُراكم أثراً ثقافياً نوعياً، يؤسس لمسار عربي جديد، تنخرط فيه النخبة لا بوصفها طبقة معزولة، بل بصفتها طرفاً في مشروع وطني وإنساني، يروم التنمية عبر المعرفة، والتقدّم عبر الأفكار.
لقد تشرفتُ بالانخراط في هذا المشروع الحضاري الكبير، الذي يقوده صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بكل ما يحمله من ثبات في الرؤية ووفاء لمسار الوالد المؤسس. وهو مشروع يضع الثقافة في قلب السياسات العامة، ويرى في تمكين المرأة وفاءً للعدل الطبيعي، واعترافاً بدورها الأصيل في بناء الأسرة والمجتمع والدولة.
وضمن هذا الأفق، جاء كتابي «حق الكدّ والسعاية»، لا بوصفه تمريناً على الفقه، بل بوصفه مساهمةً في إعادة تفعيل مفهوم أصيل في المذهب المالكي، تم تغييبه طويلاً، رغم ما فيه من إنصاف ودقة. الكتاب يستعيد مفهوم «الكدّ والسعاية»، أي الجهد المبذول من طرف الزوجة في بناء الثروة المشتركة، ويقترح قراءته لا كاستثناء فقهي، بل كقاعدة يمكن البناء عليها في تطوير القوانين الأسرية، بما يضمن الإنصاف داخل مؤسسة الزواج، ويؤسس لشراكة اقتصادية حقيقية بين الرجل والمرأة، بعيداً عن رؤية التبعية أو العرف الظالم.
لقد سعيتُ في هذا المؤلَّف إلى أن أجعل من المفهوم أداةً فكرية جديدة تقرأ النصوص بعيون الواقع، وتستنطق التراث بمنهج المقاصد، وتضع حقوقَ المرأة في صلب المعادلة لا على أطرافها. لم يكن الكتاب دفاعاً عن فئة، بل عن مبدأ. لم يكن انحيازاً لجنس، بل لتوازن. ولذا فإن تكريمه من قِبل جائزة بحجم ومكانة «الشيخ زايد للكتاب»، هو تأكيد على أن قضايا الإصلاح الفقهي والاجتماعي تجد اليوم آذاناً صاغية، ومنصات واعية، ومؤسسات تؤمن بأن الفكر هو السبيل الأقوم نحو التنمية. هذه الجائزة، إذن، لا تُكرّم فقط ما كُتب، بل تُراهن على ما يمكن أن يُكتب بعده. هي ليست خاتمة قصة، بل مقدّمة لمسار جديد، تتقدّم فيه الأمة خطوة نحو عقل يجرؤ، وقلم يضيء، ومجتمع يعترف بأن بناء الإنسان لا يكون إلا حين نُعلي من شأن الفكرة، ونعترف بمن صنعها.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة