ليست القيادة في جوهرها سطوة قرار، ولا حضوراً طاغياً في كل تفصيله، بل هي فن توزيع الأدوار، وذكاء إفساح المجال للأنظمة كي تعمل، وللعقول كي تفكر، وللثقة كي تنمو، فكلما تحرّرت المؤسسة من أَسْر «الذات الواحدة»، اقتربت من روح الفريق، واستعادت قدرتها على العمل بانضباط لا يرتبط باسم، ولا يتأرجح بمزاج. وفي تجارب القيادة المؤسسية الناجحة، يتّضح أن أعظم ما يفعله القائد لا يكمُن في إمساكه كلَّ الخيوط، بل في أن ينسج من حوله منظومة قادرة على التحرك من تلقاء نفسها.

وفي المؤسسات حين يغيب القائد عن التفاصيل، يحضر النظام المؤسسي، وتولد الحقيقة التي يؤمن بها كل من آمن بالعمل الجماعي الجاد وهي: إن القائد حين يتنحّى عن التفاصيل، لا يغيب… بل يُنجِز عمله من حيث لا يُرى. إن غياب القائد عن التفاصيل لا يعني انسحاباً من القيادة، بل هو اختبار حقيقي لمتانة النظام المؤسسي، فالقوة في القيادة لا تُقاس بقدرة القائد على فرض رأيه، بل بقدرة المؤسسة على إنتاج الرأي السليم بمعزل عنه.

وحين يكون القرار الفني مقنعاً بذاته، مبنيّاً على منهجية واضحة، ومحصّناً بضوابط موضوعية، فإنه لا يحتاج إلى استرضاء، ولا إلى تمرير، ولا حتى إلى موافقة شخصية من رأس الهرم. وعندما يُفصل القرار التنفيذي عن مزاج القائد، ويُربط بمساطر دقيقة من التشريع، وحدود واضحة للصلاحية، وميزان ثابت للمصلحة الوطنية، يبدأ النضج المؤسسي بالتجلّي، ويبدأ النظام بتأكيد حضوره، نظام يُمكّن ولا يُعطّل، ويُسرّع ولا يُجمّد، ويُدار بالثقة لا بالريبة.

وفي هذا السياق، لا تحتاج المؤسسة الناضجة إلى قائد يلاحق كل تفصيلة، بل إلى من يرسّخ قواعد رشيدة، ويضمن أن يعمل النظام بكفاءة ذاتية، وأن تحضر القيم الحاكمة للقرار في كل مستوى: النزاهة، والمسؤولية، والشفافية، والاتساق، والابتكار.

وهذا النمط من القيادة لا يأتي عفواً، بل يستند إلى مدارس فكرية عمية في علم القيادة المعاصر، من أبرزها القيادة الخادمة، التي لا ترى في القائد مركزاً للقرار، بل مركزاً للثقة، فمهمته ليست إصدار التوجيهات، بل بناء بيئة قرار راشدة، تُشجّع المشاركة، وتُكرّس التمكين، وتُعلي من صوت الفكرة لا من موقع صاحبها.

ويمتد هذا التصور إلى مفهوم الثقة المؤسسية، التي لا تُبنى بالشعارات، بل بالممارسة والانضباط، فلا تستقر الثقة إلا حين تُحترم الاختصاصات، وتُصاغ القرارات على أسس علمية، ويُفصل بوضوح بين الرأي الفني والموقع الإداري، فالمؤسسة لا تزدهر بوجود «فرد خارق»، بل حين يقودها «عقل جماعي واعٍ»، ضمن منظومة ترفض الشخصنة، وتُقدّم الكفاءة على القرب، والمعايير على الولاء. وقد أظهرت دراسات علم النفس التنظيمي أن سلوك القائد في الامتناع عن فرض الذات في تفاصيل القرار، يُولّد أثراً عميقاً في بيئة العمل، فعندما يشعر الفريق أن الثقة به ليست مجاملة ظرفية، بل ممارسة ملموسة ومتكررة، يتسارع في أعضائه الإحساس بالمسؤولية، ويرتفع سقف المبادرة، وينشط التفكير الإبداعي من تلقاء نفسه.

وحين تُبنى المؤسسات على هذه المبادئ، فإنها لا تتوقف عند أداء الأفراد، بل تتجاوزه، وتنجح حتى في غياب بعض أسمائها، لأن منطق العمل فيها لم يَعُد مرهوناً بـ «مَن قال»، بل منضبطاً بـ «ما قيل»، ومدى انسجامه مع النظام والمصلحة بصرف النظر عن هُوية القائل. إن هذا النمط من القيادة -حين يُمارَس بصدق– لا يكتفي بتفعيل الطاقات، بل يوقظ في المرؤوسين بذور القيادة نفسها، فالثقة المتبادلة، حين تُقرَن بالتفويض الحقيقي، تُنتج شخصيات قيادية قادرة على اتخاذ القرار، وعلى تحمّل تبعاته، لا تابعة في سلوكها، ولا مترددة في فعلها. وهكذا، لا تعود المؤسسة قائمة على «قائد واحد»، بل تنبض بقادة متعددي الأدوار، موحدي الهدف.

وقد لخّص صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، هذه الحقيقة القيادية حين قال: «القائد الحقيقي يصنع قادة، والمؤسسة الحقيقية هي التي تصنع ثقافة تسمح لأفرادها بالنمو. وليس قائداً من يختزل المؤسسة في نفسه. والمؤسسات نوعان: مؤسسات القائد الواحد، ومؤسسات الفريق الواحد المتعاضد، فالأولى مؤقتة، والثانية دائمة».

وفي تأمل هذا القول، تتجلى الحكمة القيادية التي تختزل جوهر ما يحتاج إليه العمل المؤسسي اليوم، فلا يكمُن الإرث الحقيقي لأي قائد في عدد القرارات التي اتخذها، بل عدد القادة الذين نشؤوا في ظله، وليس في حجم الملفات التي وقّعها، بل في مقدار الروح التي بثّها في من حوله، وفي مركزية الإخلاص، والتجديد، والعمل الجماعي.

حين تُبنى المؤسسات بهذه الفلسفة، يُصنع القادة كما تُصنع السياسات، وتُغرس روح الفريق كما تُرسم الاستراتيجيات، ويُصبح قلب المؤسسة نابضاً برجال يحملون لواءها، لا رجال ينتظرون إشارة من أعلاها.

إن أعظم اختبار لأي مؤسسة لا يكون في ذروة أدائها، بل في قدرتها على الاستمرار بالزخم نفسه حين تتغير وجوه القيادة، فالقيادات – بحكم الزمن ودورة المسؤولية – ترحل، وتبقى المؤسسات. وهنا تتجلى القيمة الكبرى للتخطيط الاستراتيجي السليم، ذلك الذي لا يُبنى حول الأشخاص، بل حول الأدوار، ولا يستهدف لحظة، بل يمتد بأفقه ليعبر الأجيال، فالنهج القيادي الناضج يرى في القيادة ماراثوناً مؤسسياً، لا سباقاً فردياً.

وكل قائد يدرك أن مهمته ليست إنهاء السباق بنفسه، بل تسليم عصا القيادة لمن بعده بثقة، واستعداد، ووضوح رؤية، ليكمل الفريق ما بدأ، من دون ارتباك أو انقطاع. وحين تُبنى المؤسسات بهذه الفلسفة، فإن غياب الأسماء لا يوقف المسيرة، وتبدّل المواقع لا يربك الاتجاه، لأن البوصلة الحقيقية ليست في يد القائد، بل في صميم التخطيط الذي أرساه، فذلك هو الفرق بين مؤسسة تتبع شخصاً، ومؤسسة تسير على خريطة.

وفي خضم هذه المبادئ، تأتي التجارب الواقعية لتعزز الفكرة. وقد وجدتُ ذلك جلياً في ما يُقال من تقدير وثناء للنجاحات التي يحققها مجلس التوازن في الآونة الأخيرة، وهي إشادات لا أراها انعكاساً لرأي شخصي فرضها حضور الموقع أو قناعة فردية انتصرت، بل لما تُتيحه بيئة القرار المؤسسية من انضباط ومرونة، وثقة بالأنظمة والخبرات، فما تحقق لم يكن لأن القائد تدخل، بل لأنه اختار ألا يتدخل، وأتاح للقناعة المؤسسية أن تمضي، وللرأي السليم أن يمرّ من دون حاجة إلى استرضاء أو إقناع.

ومن واقع ما يُبنى اليوم في المؤسسات الوطنية –ومنها مجلس التوازن – تتضح هذه الحقيقة: إن أفضل ما يقدمه القائد إلى مؤسسته، هو أن يتركها تقرّر، وأن يدفع بها نحو التنفيذ لا الجدال، وأن يجعل اسمه مرتبطاً بما لم يتدخل فيه، لا بما تدخّل ليُمرره.

إن من يُراهن على الأفراد، يربح أحياناً ويخسر كثيراً. أما من يراهن على المؤسسات، فيبني قدرة مستدامة، ويمنح الوطن ما هو أثمن من الإنجاز العابر، يمنحه منظومة قادرة على الإنجاز حتى في غياب صاحب القرار.

*الأمين العام لمجلس التوازن