يسود نقاش واسع النطاق، منذ وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، حول الحرب بذاتها، ونتائج الضربات الأميركية للمنشآت النووية الثلاث، وكذلك عن «اليوم التالي» الذي حدّد له الرئيس الأميركي دونالد ترامب عنواناً هو «السلام»، وقال إنه سيسعى إلى تحقيقه استناداً إلى ما أنجزته طائرات «بي 2» الشبحية وقنابل «جي بي يو 57» خارقة التحصينات.

غير أن النقاش طرح أسئلة كثيرة، منها: هل انتهت الحرب فعلاً حتى ولو لم تتجدّد في وقت قريب؟ وهل دُمّر المشروع النووي الإيراني أم جرى فقط تأخيره لبضعة شهور، وفي رواية أخرى لبضع سنوات؟ وماذا عن البرنامج الصاروخي الذي شكّل الهدفَ الثاني للهجمات التي شنّها الإسرائيليون؟ للإجابة، تمسّك أركان الإدارة الأميركية بسردية مفادها أن كل الأهداف تحققت، وبالتالي فالحرب حُسمت، فيما رفع الطرفان الآخران شعارات «الانتصار» مفندَين ما استطاعا تحقيقه. لكن طُرح أيضاً السؤال الأصعب: ماذا بعد؟ فالأمر لا يقتصر فقط على ما شهدته مواجهة الـ12 يوماً من قتل وتدمير واستخدامٍ لسلاح فتاك في ما شبّهه الرئيس ترامب بـ«هيروشيما وناغازاكي»، بل ينبغي البحث أولاً عما يحول دون تكرار ما حصل، وثانياً عما يرسّخ التهدئةَ ويعمّمها طالما أن هذه الحرب اعتُبرت نتيجةً وامتداداً لما حصل ويحصل في غزّة ولبنان كما للتغيير في سوريا، وثالثاً عن شراكات تعزّز التعاون والتنمية.. أي أنه ينبغي التطلع إلى عكس ما يتوقّعه الخبراء الآن من سباق جديد إلى التسلّح ومراجعاتٍ لأساليب الحرب التي سيزيد اعتمادها على التكنولوجيا الأكثر تقدّماً.

غير أن الحرب تبقى هي الحرب، ومهما تغيّرت وسائلها فإن «صناعة الموت» ركيزتها وأساسها أياً تكن أهدافها أو مشروعيتها.كانت الإجابة الجاهزة هي أن ما بعد الحرب متروك للمفاوضات. وأول محدّداتها وجوب الانتهاء من أزمة البرنامج النووي التي نشبت قبل عقدين ونيّف وأثارت في الإقليم قلقاً ومخاوف وتهديدات، إلى أن تفجّرت أخيراً. يقول كبير المفاوضين الأميركيين أن لديه شعوراً عميقاً بإمكان التوصّل إلى اتفاق مع إيران.

والواقع أن المفاوضات المرتقبة لا تُختصر بحلّ الخلاف على مسائل تقنية في البرنامج النووي سبق أن نوقشت على مدى أعوام، وكان يُفترض أن اتفاق 2015 وضع لها ضوابط لولا أنه تضمّن ثغرات كثيرة أدت إلى الانسحاب الأميركي منه في عام 2018. أما وقد ضُرب هذا البرنامج بعمل عسكري غير مسبوق، فإن المفاوضات القادمة مدعوّة ربما للمرة الأولى، ورغم الصعوبات، إلى تفكيك مجمل تعقيدات النزاع الأميركي الإيراني، واستطراداً النزاع الإسرائيلي الإيراني.

وفي هذا المسار الصعب لا بدّ أن تتحمّل الأطرافُ جميعاً مسؤولياتها لئلا تعاود دفع المنطقة إلى حافة حرب شاملة. قبل شهر من حرب الـ12 يوماً حلّ الرئيس الأميركي ضيفاً على ثلاث دول خليجية، وأتيح له أن يلمس التغيير الإيجابي الذي تنجزه هذه المنطقة، وما يحمله من مفاهيم جديدة ومنسجمة مع روح العصر ومتطلبات السلام والاستقرار الحقيقيين، أكثر من المفاهيم الأخرى التي تُدار بغرائز الحرب والانتصارات العبثية وأحلام السيطرة وأوهام الإمبراطوريات الغابرة، وقد تعرّضت كلّها لاختبارات كارثية.

وثمة أمران مهمّان في هذا السياق: الأول، أن تقود الولايات المتحدة مقاربةً جدّية لـ«السلام»، فالمنطقة عانت من إفشال «عمليات السلام» ولم تستفد من أي فرص يمكن أن توفرها. والآخر، أن البحث عن السلام يجب أن يعيد الاعتبار إلى القانون الدولي الذي تكاد الحروب والانتهاكات أن تفرغه من أي معنى.

*كاتب ومحلل سياسي - لندن