انتهت الجولة الأخيرة من الصراع الإيراني- الإسرائيلي، أو ما يمكن وصفه بالحرب شبه الأميركية، بعد اثني عشر يوماً من التصعيد المتبادل. لكن ما كُشف خلال هذه الأيام القصيرة كان أكبر بكثير من عدد الصواريخ والمسيرات، وأخطر من حجم الدمار والخسائر. لقد تكشفت حقيقة الأطراف، وتبددت كثير من الصور التي ظلّت تُسوّق لسنوات. واتضح أن التوازنات التي تقوم على الوهم، تسقط سريعاً عند أول مواجهة حقيقية.
إسرائيل التي لطالما صدّرت للعالم صورة الدولة التي لا تُهزم، لم تَبدُ بهذه القوة حين واجهت المئات من الصواريخ والطائرات المسيَّرة الإيرانية. بعضها اخترق المنظومات الدفاعية ووصل إلى عمق المدن، وبعضها شلّ الحركة لوقت قصير، لكن الأهم أن الجبهة الداخلية اهتزت، والقيادة السياسية دخلت في حالة ارتباك واضح.
ورغم كل الضربات التي وجهتها، فإن إسرائيل لم تتمكن من فرض صورة الحسم ولا من إنهاء الحرب بشروطها. بل لم تكن قادرة على خوض الحرب أصلاً من دون غطاء أميركي تقني وسياسي واستخباراتي. القبة الحديدية لم تكن كافية، ولا سلاح الجو ولا البحرية، بل كانت غرفة العمليات المشتركة مع واشنطن وأوروبا هي العنصر الحاسم. أما إيران، فقد ردّت، وصعّدت، لكنها لم تكن في موقع الهجوم الاستراتيجي الكامل. ضربت، وتراجعت. أرسلت رسائل، لكنها لم تفرض معادلة. أظهرت قدرة على الإيذاء، لا على تغيير موازين القوى. ومع أن ضرباتها طالت القواعد الأميركية والإسرائيلية، فإنها بقيت ضمن سقف محسوب. كانت تتحرك تحت الضغط، لا من موقع المبادرة. وكانت تتألم في صمت، وسط أزمات داخلية وارتباك في الشارع، ومخاوف من انهيار اقتصادي أكبر إن تصاعدت الحرب.
لكن السؤال الذي لا يمكن تجاهله: ماذا عن العرب؟ ما هو موقعهم؟ وماذا كشف لهم هذا الصراع؟ في الحقيقة، الكل تألم. لكن العرب اكتشفوا أنهم خارج اللعبة. لا صوت فاعل، لا تأثير حقيقي، ولا موقف مشترك. الأرض العربية كانت مساحة محتملة للردود، لكن القرار لم يكن في أيديهم. لا في العراق، ولا في سوريا، ولا في الخليج.
التهديد كان يمر والأجواء تُرصد، دون أن يكون للمنطقة دور سوى مراقبة المشهد من المدرجات. وهنا تتأكد الحقيقة الأخطر: إسرائيل لا تستطيع أن تحارب وحدها، وإيران لا تستطيع أن تنتصر وحدها، والعرب ما زالوا بلا مشروع واضح، بلا منظومة أمن جماعي، وبلا قدرة على إعادة التوازن. الحرب لم تكن حربهم، لكن نتائجها ستطالهم، وستُفرض عليهم تبعاتها، كما يحدث دائماً.
لقد آن الأوان للعرب أن يتحركوا. لا للانخراط في صراعات غيرهم، بل لبناء معادلتهم الخاصة. ما كشفت عنه هذه الحرب هو أن إسرائيل أضعف مما تروّج، وأن إيران أقل من الصورة التي تحاول تصديرها، وأن المعركة المقبلة قد لا تكون بين طهران وتل أبيب، بل في داخل الخرائط المهترئة. وهنا تكون الخطوة الأذكى للعرب أن يعيدوا التموضع ليس عبر التصعيد، بل عبر استعادة زمام المبادرة.
بناء قوة مستقلة لا تتبع أجندات الآخرين، وتحصين القرار الإقليمي، وإعادة تشكيل منظومة أمن عربي جماعي، تكون قادرة على حماية الأرض والسيادة، وتمنع تكرار مشهد التفرّج. هذه الهدنة ليست نهاية الحرب… بل نهاية الوهم.
*لواء ركن طيار متقاعد.