تُعَدُّ شهادة الدكتوراه أعلى درجات التحصيل العلمي، ودليلاً على قدرة صاحبها على الإضافة المعرفية، والإبداع الفكري، غير أن هذه القيمة السامية تتعرض اليوم لتشويه خطِر، حين يتحول نَيل الدكتوراه في بعض الأحيان إلى غاية شكلية، تُنتزع في نهاية مسار دراسي طويل من دون أثر علمي أو عملي ملموس. إنها جريمة بحثية تتخفى وراء المظاهر الأكاديمية، ولكنها تُفرِّغ مفهوم البحث العلمي من جوهره الحقيقي.
إن الهدف من الدكتوراه ليس تراكم النصوص، أو اجتياز الإجراءات، بل إنتاج معرفة جديدة تُثري الفكر الإنساني، وتسهم في تطوير الواقع. وحين تُمنَح هذه الدرجة من دون ناتج حقيقي - بحث منشور، أو ابتكار تطبيقي، أو فكرة أصيلة -، فإننا نكون أمام ظاهرة خطِرة تُنذر بانهيار الثقة بالمؤسسة الأكاديمية نفسها، فالقيمة الحقيقية لأي جامعة لا تُقاس بعدد خريجيها، بل بمدى تأثيرهم العلمي والمجتمعي، وبقدرتهم على تحويل المعرفة إلى فعل.
وتكمن المشكلة في أن بعض البرامج الأكاديمية باتت تركِّز على الكمِّ أكثر من النوع، فتنشغل بالإجراءات الشكلية، وتغفل عن المضمون. وتُقبل الرسائل الجامعية التي لا تتجاوز التكرار، وتُمنح الشهادات من دون تقييم حقيقي للمخرجات. وهنا يتحول البحث العلمي إلى طقس إداري، لا إلى فعل فكري منتج. والأخطر أن هذا الخلل يعيد تشكيل الوعي الأكاديمي، ليصبح «الحصول على اللقب» هو الغاية، لا «صناعة الأثر».
وتتحمل الأطراف الثلاثة - الطالب، والمشرف، والجامعة - مسؤولية مشتركة في هذه المعضلة، فالطالب الذي يسعى إلى الشهادة من دون شغف بالبحث، والمشرف الذي يكتفي بالمراقبة الشكلية من دون توجيه نقدي جاد، والمؤسسة التي تتهاون في معاييرها، وتُغريها الأرقام، كلهم يسهمون في تفريغ أعلى الدرجات العلمية من معناها. الإصلاح يبدأ من الاعتراف بهذه الأزمة، ثم وضع آليات واضحة تضمن أن تُنتج كل رسالة دكتوراه معرفة قابلة للقياس والتطبيق.
وحان الوقت لوقفة حازمة من المؤسسات الأكاديمية، لإعادة ضبط معايير منح الدكتوراه على أساس من الجودة والأثر. ويجب أن تُربَط الدرجة العليا بإنجاز فعلي يمكن التحقق منه: بحث في مجلات علمية رصينة، أو تطوير تطبيقي يخدم المجتمع، أو مساهمة يُفتح بها أفق جديد للعلم. وحدها هذه المعايير تضمن أن تظل الدكتوراه رمزاً للشرف الأكاديمي، لا عنواناً للعبث البحثي.
الأستاذ الدكتور/ أحمد عباد الدرة*
*نائب المدير الأكاديمي للشؤون البحثية، أستاذ في كلية الهندسة الكهربائية وعلوم الحاسوب في جامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا


