ربما تكون المواجهات العنيفة التي شهدتها منطقتنا في السنتين الأخيرتين قد شغلتنا عن التركيز على ما يجري في العالم من حولنا، مع أنه وإن كان أقل أهميةً بالنسبة لنا عما يجري في المنطقة، إلا أنه يبقى بالغ الأهمية لأمننا واستقرارنا ورفاهية بلداننا.
ومن المعروف أن العالم يشهد منذ فبراير 2022 مواجهةً مسلحةً بين روسيا وأوكرانيا، تحوّلت إلى حرب عالمية مصغَّرة باصطفاف حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بقيادة أميركية، مع أوكرانيا ضد روسيا التي اعتبر الحلف الغربي أن ما قامت به يمثل تهديداً لأوضاع ظن «الناتو» أنها استقرت لصالحه بعد أن تفكك الاتحاد السوفييتي وكسب الغرب (بقيادة واشنطن) الحربَ الباردة. ومن المعروف كذلك أن روسيا الاتحادية، بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، حاولت التصالحَ مع الغرب وثنيه عن الاستمرار في اتباع نهج الحرب الباردة، عبر عملية تطويق روسيا، من خلال التوسع في عضوية حلف الأطلسي حتى بات يضم معظم أعضاء «حلف وارسو» السابق، فضلاً عن بعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي قبل تفككه. ومع تعثر المحاولات الروسية ووصول محاولات التطويق لأوكرانيا ذات الرمزية الخاصة بالنسبة لروسيا، بل والإطاحة بنظام الحكم السابق الصديق لها في كييف، باتت القيادةُ الروسية أمام تحدٍّ اكتفت في مواجهته مؤقتاً بفرض السيادة الروسية على شبه جزيرة القرم في عام 2014. غير أنها قبلت بحل دبلوماسي يقوم على فكرة الحكم الذاتي لجمهوريتي الدونباس بموجب اتفاقيتي مينسك في 2014 و2015. لكن المراوغة في تنفيذ الاتفاقيتين أجبرت الرئيسَ الروسي على الدخول في مواجهة ضد أوكرانيا. ومن المعروف أن بارقةَ أمل قد لاحت مع ولاية ترامب الثانية، والذي كان منذ حملته الانتخابية التي حملته مجدداً لموقع رئاسة البيت الأبيض يردد أنه لو كان رئيساً لما قامت الحرب، وأنه سينهيها بعد فوزه. وكان الأساس القوي للاعتقاد بقدرته على ذلك هو قبوله لمبدأ التسليم بتغييرات إقليمية لصالح روسيا كأساس للتسوية. وكانت المعاملة التي لقيها الرئيس الأوكراني في زيارته الأولى للبيت الأبيض في عهد ترامب مؤشراً لقرب تسوية سياسية على هذا الأساس.
لكن الأمور تعقدت، سواء لممانعة أوكرانية مدعومة بموقف أوروبي مساند بصفة عامة، أو لتشدد روسي يرفض قبولَ الحد الأدنى من التنازلات المطلوب لإتمام التسوية، رغم اللقاء الذي بدا ناجحاً لترامب وبوتين في ألاسكا، أغسطس الماضي. ووصل الأمر لتأجيل ترامب لقاءَه الثاني بالرئيس الروسي، وهو لقاء كان مقرراً انعقاده في المجر، وبدأ الرئيس الأميركي يشكو من أن نظيره الروسي يقول كلاماً جيداً لا ينعكس في قراراته. وعاد الحديث مجدداً عن تزويد الولايات المتحدة لأوكرانيا بصواريخ يمكنها أن تطال العمقَ الروسي، وتلويح روسيا بقوتها النووية، ورد الولايات المتحدة بنفس الطريقة.. مما وضع العالمَ مجدداً أمام سيناريو التصعيد الخطير.
وفي الوقت ذاته، زاد التوتر المزمن في بحر الصين الجنوبي، وتهديد ترامب المبطّن للصين حال إقدامها على غزو أحد حلفاء واشنطن في المنطقة. قد يتصور البعض أن آثار هذه التطورات بعيدة عنا، وهو تصور يسهل بيان خطئه بمجرد تذكر تداعيات الحرب في أوكرانيا، وبالذات فيما يتعلق بأسعار الطاقة والقمح التي ارتفعت كثيراً بعد تفجر المواجهة، ويُضاف لذلك أن التفجر المحتمل لمواجهة بين الولايات المتحدة من جانب وروسيا والصين من جانب آخر سوف يُدخل المنطقةَ من جديد في استقطاب هو آخر ما تحتاجه، ولذا يتمنى المرء أن يسود الرشدُ حساباتِ القوى الكبرى، وهي حسابات ممكنة دون شك لو كانوا يعقلون.
*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة


