في لحظة تتقاطع فيها الذاكرة الوطنية بالمستقبل السياسي، جاء قرار مجلس الأمن الدولي الداعم لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء المغربية تحت السيادة الكاملة للمملكة، ليشكّل تحولاً استراتيجياً في مسار النزاع، ويؤسس لمرحلة جديدة عنوانها الاستقرار والتنمية.

ففي السادس من نوفمبر، تاريخ المسيرة الخضراء الخالدة، لم يحتفل المغرب بذكرى وطنية فحسب، بل يعيد ترميم الوعي العربي بمعنى النصر الهادئ، النصر الذي يُكتب بالحكمة لا بالمدفع، بالحنكة لا بالصدام. القرار الأممي لم يكن مجرد وثيقة سياسية، بل شهادة أممية على نضج الدبلوماسية المغربية بقيادة جلالة الملك محمد السادس، وبإجماعٍ متنامٍ على أن منطق السلام أكثر واقعيةً مِن أوهام الحرب.

في هذه اللحظة المفصلية، انفتح أفقٌ جديدٌ للمنطقة المغاربية والعربية على حد سواء، إذ تحولت قضية كانت عنواناً للانقسام إلى ركيزةٍ جديدة لوحدةٍ مغاربيةٍ ممكنة. ولعل الدلالة الأعمق لهذا الانتصار ليست في حدود الجغرافيا، بل فيما يرمز إليه من قدرة على الانتقال من منطق الصراع إلى منطق البناء. فالمغرب بهذا القرار لا يدافع عن أرضه فحسب، بل يقدم نموذجاً سياسياً متوازناً يمكن أن يُحتذى به في محيطٍ عربي أنهكته النزاعات وأرهقته الحروب. القرار الأممي يحمل في جوهره رسالةً إلى العالم، مفادها أن زمن إهدار الطاقات في الحروب انتهى، وأن على الدول أن تتجه إلى تحويل نفقات الصراعات إلى مشاريع تنموية وبنية تحتية تخدم الإنسان قبل السلطة، والمجتمع قبل الشعارات.

آن الأوان أن تتحول ميزانيات الأسلحة إلى ميزانيات مدارس ومستشفيات وجسور، وأن يصبح الاستثمار في الأمن الإنساني بديلاً عن سباق التسلح الذي لم يورث المنطقةَ إلا الشقاء والتبديد. لقد أعاد هذا القرارُ الثقةَ إلى فكرة السلام العادل والممكن، وأثبت أن الحلول السياسية لا تُصاغ في العواصم البعيدة فقط، بل تنبع من إرادة الشعوب ومن قيادات تؤمن بأن السلام ليس ضعفاً، بل هو الذكاء السياسي في أرقى تجلياته.

إنها لحظة انتصارٍ للدبلوماسية العربية الرشيدة التي تعرف كيف تحمي مصالحَها دون أن ترفع السلاح، وكيف تُقنع العالم بعدالة قضاياها دون ضجيج. ومن موقعها الفاعل، جسّدت دولة الإمارات هذا المعنى بوضوح حين دعّمت المسارَ السلمي كمبدأ لا كتكتيك، مؤكدةً أن صوت الاعتدال هو الطريق الأمثل لحفظ كرامة الشعوب وصيانة أمنها واستقرارها. فالمواقف التي تتأسس على الحق تُنتج شرعية، والمبادرات التي تنطلق من رؤية إنسانية تُثمر استقراراً مستداماً. إن القرار الأممي حول الصحراء المغربية يُعيد تعريف موقع العالم العربي في خريطة العلاقات الدولية. فالعرب اليوم أمام فرصة تاريخية لاستعادة دورهم كصانعي استقرار لا كمناطق أزمات، وكشركاء في التنمية لا كعناوين للعجز.

والمغرب بهذا الانتصار لا يُغلق ملفاً قديماً، بل يفتح بوابةً لزمنٍ جديد من التفاهم والتكامل، زمنٍ تنتهي فيه لغة الاصطفاف وتبدأ فيه لغة البناء.لقد آن للعالم العربي أن يؤمن بأن أمنه يبدأ من سلامه الداخلي، وأن تنميته لا تزدهر إلا حين تُدفن الحروب، وأن السلم ليس هدنة مؤقتة بل رؤية مستدامة للعيش المشترك.

من رمال الصحراء خرج نداء المغرب ليقول للعالم إن السيادة لا تُصان بالقوة فحسب، بل تُبنى بالعقل، وإن الاستقرار لا يتحقق بالقهر، بل بالعدل، وإن المستقبل لا يُشترى بالبندقية بل يُصاغ بالإرادة والإيمان بمصيرٍ عربيٍّ مشترك. هكذا يصبح السادس من نوفمبر أكثر من ذكرى وطنية، يصبح عيداً للسلام العربي الجديد، وفجراً لعهد مغاربيٍ ينهض من رماد الصراعات ليبني وطناً للأمل والكرامة.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة