في نهاية أكتوبر الماضي ولدت حركة «السترات الصفراء»، نظراً لارتدائهم السترات الفوسفورية التي يتوجب على كل سائق سيارة ارتداؤها إذا ما تعرض لحادث، وذلك اعتراضاً على سياسات ماكرون وغلاء المعيشة، وسياسة الحكومة الاجتماعية والمالية، وفي البدايات شارك في الاحتجاجات السائقون العاديون الذين يعيشون في الأرياف ويتّنقلون بوساطة سياراتهم الخاصة للذهاب إلى أعمالهم في المدن، ثم اتسع نطاقها في عدد من المدن بعد انضمام نشطاء ينتمون إلى أقصى اليمين وأقصى اليسار لتشمل الطلاب والمسعفين والمزارعين، وترديد هتافات وشعارات تطالب برحيل الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، وإسقاط الجمهورية الخامسة في تحد واضح للسلطات.
أعمال الشغب التي اجتاحت فرنسا كانت الأكثر عنفاً في فرنسا منذ أكثر من عقد من الزمن، وقدمت الحكومة بعض التنازلات غير المسبوقة، ووعدت بالعمل من أجل رفع الأجور وتخفيض الضرائب لتهدئة ثورة الاحتجاجات العارمة التي اجتاحت فرنسا. «ماكرون» بين النوايا الخضراء والسترات الصفراء، التي تحولت لسترات غضب لتستمر الاحتجاجات للأسبوع الخامس على التوالي، بعد أن تحول ما كان مجرد عريضة نشرت على الإنترنت للتنديد بارتفاع أسعار الوقود لتعزيز ممارسات طاقة صديقة للبيئة تساهم ولو بشكل يسير في التعاطي الأممي مع ظاهرة التغيّر المناخي، والاتفاقية الخاصة بالظاهرة التي انسحبت منها الولايات المتحدة الأميركية بينما يعتبر «ماكرون» أكبر المدافعين عنها.
ومن جهة أخرى، نددّ الاحتجاج الشعبي العارم بارتفاع الضرائب وتفشّي الفقر في البلاد، وتخلل المظاهرات أعمال عنف وتخريب تسببت بمقتل 8 أشخاص على الأقل وجرح المئات، كما قامت قوات الأمن الفرنسية باعتقال قرابة 5 آلاف شخص منذ أن بدأت حركة «السترات الصفراء» احتجاجاتها منتصف نوفمبر الماضي، وتراجعت السبت المنصرم حدة مظاهرات حركة «السترات الصفراء» في أسبوعها الخامس والتي شهدتها باريس ومدن البلاد الكبرى الأخرى.
وأعتقد أن ما يحدث في فرنسا مؤشر خطير لما هو قادم في القارة العجوز في ضوء صعود اليمين المتطرف، والانطلاقة البطيئة التي بدأت تتصاعد لربيع اليسار الراديكالي الذي بدأ يزهر في أوروبا، ولا سيما أن فرنسا هي عاصمة اليسار الثقافي وأن كان الاتحاد السوفييتي السابق معقله وبوابته الأكبر نحو العالم، هذا وقد بدأت احتجاجات حركة «السترات الصفراء» برفض الزيادة على أسعار وقود السيارات، وارتفع سقف الاحتجاجات إلى المطالبة بزيادة القوة الشرائية لدى المواطنين، وأخيراً المطالبة بتغيير النظام السياسي ونظام التصويت وعدم الانتظار لخمس سنوات لإحداث تغيير في قمة الهرم السياسي، بعد أن رفعت الحركة الاحتجاجية الشعبية مطالب سياسية وصلت إلى حد الدعوة إلى استقالة ماكرون وتنظيم استفتاء، فيما لم يستبعد مراقبون تحوّل هذا الحراك إلى حزب سياسي خاصة بعد أن اتسعت دائرة الاحتجاج وشملت 40 مطلباً، منها خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، وهو ما لقي قبولاً واسعاً من الشعب الفرنسي حتى اتسعت دائرة التظاهرات.
وتراجعت شعبية «ماكرون» في استطلاعات الرأي، وقد كشف سكرتير الدولة في وزارة الحسابات العامة الفرنسية «أوليفييه دوسوبت» عن تكلفة التنازلات التي أعلن عنها الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» بالنسبة للميزانية الفرنسية، وقال المسؤول الحكومي في تصريح لقناة «بي أف أم تي في» إن التكاليف ستبلغ « بين 8 و10 مليارات يورو»، مضيفاً أن الحكومة تدرس حالياً سبل إيجاد تمويل لتغطية تكاليف هذه التنازلات وذلك بعد أن أعلن الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» عن زيادة الرواتب للعاملين الفقراء، وتخفيض الضرائب للمتقاعدين وغيرها من التنازلات المالية، وخطة تتضمن عدداً من التنازلات الضريبية تشمل: تعهداً برفع الحد الأدنى من الأجور بمقدار 100 يورو بدءاً من مطلع العام 2019، وعدم فرض الضريبة على مكافأة نهاية السنة، وإلغاء المساهمة الاجتماعية العامة المفروضة على المتقاعدين الذين لا يتجاوز أجرهم 2000 يورو شهرياً، وبالتالي تحسين القدرة الشرائية للفرنسيين بشكل أكبر.
والجدير بالذكر أن الاحتجاجات قد صاحبها وقوع حادث إرهابي في مدينة ستراسبورغ وإعلان تنظيم «داعش» تبني الهجوم، وما يدور خلف الكواليس عن من أوجد هذا التنظيم في الأساس! مما أثار نظرية المؤامرة وتحويل دفة الأزمة وأهمية أن تواجه فرنسا الإرهاب، وبالتالي ناشدت الحكومة «السترات الصفراء» بـ«تحكيم العقل وعدم التظاهر»، وذلك لتمكين قوات الأمن من تركيز جهودها على مواجهة الإرهابيين. ويتساءل البعض: من يقف وراء احتجاجات باريس والمطالبة بإسقاط حكم «ماكرون»! وهل هو عقاب له على تصريحاته بأنه يريد الخروج من «الناتو»! وخاصة أن الاحتجاجات اندلعت بعد تصريحات الرئيس الفرنسي عن ضرورة إنشاء جيش أوروبي مستقل عن حلف «الناتو».