خصص موسم أصيلة السنوي ندوتَه الأولى التي اتسمت بالجدية العالية والحيوية السجالية الحرة، للعبء الديمقراطي في عالم اليوم، استحضاراً للإشكاليات الكبرى الراهنة التي تعاني منها مختلف بلدان العالم بخصوص أنماط إدارة التعددية السياسية والمجتمعية في سياق كوني تتغير سماته ومكوناته بصفة جذرية.
وإذا كان من الخُلف النظر لمختلف الساحات العالمية بنفس النظرة والتقويم، فغني عن البيان أنه لا سبيل للمقارنة بين الديمقراطيات المستقرة العتيدة التي تتركز في العالم الغربي (أوروبا الغربية وأميركا الشمالية) والتجارب الديمقراطية الوليدة أو المتعثرة، والأنظمة السلطوية الأحادية التي تحكمها أحزاب سلطة مهيمنة، فإن المنظومة الديمقراطية في عمومها تعاني في الوقت الحالي من أزمتين متلازمتين هما: الانفصام المتزايد بين الآليات الإجرائية في الديمقراطية وقيمها المعيارية الناظمة التي هي القيم الإنسانية الليبرالية، والانفصام المتزايد بين نظام الحكم السياسي والمجتمع المدني لتراجع وتأزم الوسائط التنظيمية والتمثيلية التي هي إطار العمل السياسي ومرتكز الشرعية السياسية.
الأمر هنا يتعلق بإشكالين يستثيران اهتماماً واسعاً في الفكر السياسي الغربي، ونادراً ما يتم العرض لهما بالجدية ذاتها والرصانة النظرية نفسها في السياق العربي الإسلامي. إن ما نشهده في الغالب هو اختزال المسألة الديمقراطية في ضوابط التنظيم السياسي وآليات التمثيل الانتخابي دون الإجابة عن السؤال الجوهري المتعلق بطبيعة الارتباطات الإشكالية المعقدة بين التركيبة المجتمعية الثقافية للحقل السياسي وآليات تدبيره الإجرائية في إطار الثوابت الديمقراطية التي تتمحور حول مبدئي الحرية والمساواة، من حيث هما مبدآن مجردان لا يتحققان موضوعياً بالضرورة في آليات المنافسة التي بلورها الفكر الأوروبي الحديث.
لقد لاحظ ماكس فيبر، وهو عالم الاجتماع البارز الذي بلور أهم نظرية حديثة في الشرعية السياسية، أن الديمقراطية التعددية بقدر ما هي التعبير الحر عن الحرية السياسية هي في الوقت نفسه منظومة هيمنة حتى لو كان ينظر إلى هذه الهيمنة من داخل التجربة الديمقراطية نفسها بأنها مشروعة.
لا تهمنا هنا الإشكالات التي تطرحها راهناً مسألة الشرعية السياسية في الدول الديمقراطية الغربية، وإنما سنكتفي بالجوانب التي تطرح اليوم في العالم الإسلامي، حيث يكتسي العامل الديني أهمية محورية في صياغة شكل النظام السياسي.
والواقع أن المجتمعات الإسلامية تعرف منذ عقود جدلاً نظرياً وإجرائياً عميقاً حول مكانة الدين في المنظومة السياسية، وهو جدل مختلف كلياً عن السياق الغربي حيث أقصي الدين من المجال العمومي وفق تجارب متمايزة. ما يعيشه العالم الإسلامي هو نقاش محتدم حول تصورين متمايزين للدين في المجال العمومي: الموقف الذي يرى في الدين قاعدة معيارية وقيمية عميقة للهوية الجماعية، ولذا يتعين تجنيبه اعتبارات التوظيف الأيديولوجي والسياسي، والموقف الذي يراه إطاراً أيديولوجياً للعمل السياسي بما يفضي إليه هذا القول من تكريس أخطر أنواع الاستبداد بمضاعفة الشرعية الإجرائية الديمقراطية بالشريعة الدينية المموهة.
إن هذا الموقف الثاني هو الذي تستند إليه بعض المقاربات في تسويق التجربتين الإيرانية والتركية باعتبارهما نموذجين ديمقراطيين للاحتذاء في العالم العربي.
في البلدين تنظم منافسات انتخابية دورية تحترم إلى ما القواعد الشكلية للديمقراطية التعددية، بيد أن الشروط الضرورية للعمل الديمقراطي الحر مفقودة، إما للقيود الدستورية القبلية (نظام ولاية الفقيه في إيران الذي يعيد إنتاج نفسه في صيغ مضبوطة محددة السقف)، أو لإلغاء كل مراكز التوازن في النظام السياسي من سلط مستقلة وإعلام حر وقوى مدنية حية من منظور أيديولوجي ديني (التجربة التركية).
فالمطلوب اليوم في البلدان العربية التي تعيش مصاعب الانتقال الديمقراطي هو بلورة الآليات العملية الناجعة التي تضمن الحفاظ على الموقع العمومي للدين إطاراً مكيناً للهوية الجماعية وللأرضية المعيارية المشتركة والحيلولة دون تحويله إلى ورقة من أوراق الصراع السياسي الحزبي.
وإذا كانت الديمقراطيات الغربية قد اعتمدت في المسألة الدينية الحلَّ العلمانيَّ مع اختلاف واضح في ضبط موقع الدين في المجال العمومي (ما بين آلية الفصل القانوني في فرنسا وترجمة المعايير الدينية في مفهوم الديانة المدنية في أميركا)، فإن المشكل ليس مطروحاً في الساحات العربية، لاعتبارين أساسيين هما: غياب سلطة مؤسسية منافسة للدولة على غرار الكنيسة، والانسجام الديني الواسع في عموم البلدان العربية.. بما يجعل الدين من المقومات المشتركة وليس عنصر تأزيم اجتماعي.
ومن هنا نصّت عموم الدساتير العربية على الإسلام ديناً للدولة ومصدراً من مصادر التشريع دون تعارض مع الطابع المدني القانوني للدولة، وهو ما اعتبره المفكر التونسي هشام جعيط أمراً مبرراً بكون الإسلام ديناً وحضارة هو القاعدة الرمزية العميقة لنظام الاجتماع المدني في الحضارة العربية.
وهكذا نخلص إلى أن الحفاظ على الطابع العمومي للدين مشروط بتجنيبه التوظيف السياسي والأيديولوجي الذي يفضي إلى نزع طابعه المقدس الإجماعي بحيث يصير أداة لتفجير المجتمعات بدلاً من دوره التاريخي المهم في توطيد لحمة الكيانات الاجتماعية وصون استقرارها واستمراريتها.
*أكاديمي موريتاني