هناك طرح متداول حاليا مؤداه أن أوروبا هي التي ستسود المستقبل، وليس الولايات المتحدة، ولا الصين، ولا أية قوة أخرى. وهذا الطرح هو ما يركز عليه كتاب: "لماذا ستدير أوروبا القرن الحادي والعشرين"، لمؤلفه "مارك ليونارد"، مدير "مركز السياسة الخارجية" البريطاني، وواحد من كبار المفكرين البريطانيين المتخصصين في شؤون السياسة الخارجية.
يقول "ليونارد" في بداية كتابه أن الاتحاد الأوروبي يمثل تجربة جديدة وناجحة للغاية، وأن هناك عددا محدودا من الناس - منهم المفكر الشهير "جان مونيه" الذي بشر بالوحدة الأوروبية في الخمسينيات- هم الذين كان بمقدورهم تخيل أنه يمكن لأوروبا أن تبدو يوما ما في الصورة التي هي عليها الآن. بعد ذلك يمضي المؤلف للقول إن الاتحاد الأوروبي بصورته الحالية، يجسد الصورة التي يجب أن يكون عليها العالم بأسره. وللتدليل على ذلك يقول إن الاتحاد الأوروبي يقوم الآن بالانفتاح على المزيد من الدول بوتيرة متسارعة، وإنه قد قام بضم 25 دولة جديدة إلى عضويته، كما ينظر في الطلبات المقدمة من عدد من الدول الأخرى التي تسعى للانضمام إليه. والمؤلف يشير إلى أن النهج الأوروبي الذي يقوم على إغراء الدول الأخرى باتباع مبادئه وقواعده، والذي يتناقض مع النهج الأميركي القائم على الأحادية وعلى التهديد والعدوان العسكري، هو النهج الصحيح في التعامل مع الدول، والذي ستكتب له الغلبة في نهاية المطاف.
ويشار في هذا السياق إلى أن الأوروبيين قد ظلوا لعقود من الزمان، بل ربما لقرون، ينظرون إلى العالم من خلال منظور أوروبي بحت. ومؤلف كتابنا هذا ينتمي - كما هو واضح- إلى هذا الطراز من الأوروبيين، الذين يؤمنون بأنه طالما أن الماضي كان أوروبيا، فإن المستقبل أيضا يجب أن يكون كذلك، وهو ما يدعونا إلى تصنيف منهجه في التناول بأنه يقوم على فكرة "المركزية الأوروبية"، التي انبعثت مجددا، بعد أن كان الكثيرون قد ظنوا أنها قد أصبحت في طي النسيان. وعلى الرغم من أن هذه الفكرة أفضل بالتأكيد من فكرة بوش القائمة على الأحادية وعلى الانفراد الأميركي بمصير العالم، إلا أنها بالتأكيد لا تصلح كي تشكل وحدها أساسا لإجراء تقييم متوازن وواع للاتجاهات العالمية السائدة في عصرنا الحالي. ويقول المؤلف إن المتحمسين للتكامل الأوروبي، قد آمنوا طويلا بأن تجميع السيادات الوطنية، يمثل استجابة مناسبة وضرورية لحقيقة الأفول التدريجي لنموذج الدولة - الأمة في زمن العولمة. وهو يؤمن أن ما ينطبق على أوروبا في هذا الشأن، ينطبق أيضا على باقي دول العالم، في حين أن ذلك ليس صحيحا، لأن تجربة الاتحاد الأوروبي هي تجربة خاصة ترتبط بأوروبا وظروفها، ولا تعتبر بالتالي نموذجا يمكن تعميمه على كافة المناطق. فعلى رغم أن الانحسار التدريجي لنموذج الدولة- الأمة، قد بدأ في أوروبا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن الأمر لم يكن كذلك في قارة آسيا التي تضم ثلث عدد سكان العالم، والتي كانت عملية "بناء الأمم" فيها هي الشرط الضروري والمسبق، الذي اعتمد عليه النجاح الباهر الذي حققته مجموعة الدول المعروفة بـ"النمور الآسيوية". لذلك فإن مقولة المؤلف إنه يمكن النظر إلى قارة آسيا من خلال منظور أوروبي، ووفقا للشروط والمعايير الأوروبية، هي مقولة مضللة في الحقيقة.
وعلى رغم أن المؤلف كان على صواب عندما أوحى بأن هناك مقلدين للاتحاد الأوروبي مثل منظمة الآسيان (اتحاد دول جنوب شرق آسيا "Asean" ومنظمة "ميركوسر" -Mercosur السوق المشتركة لبلدان الجنوب، إلا أنه كان دون شك مخطئا في افتراضه أن مثل تلك التجمعات الإقليمية ستكون هي النمط الذي سيسود في المستقبل. لا خلاف على أن الاتحاد الأوروبي سوف يلعب دورا عالميا مهما في المستقبل، إلا أننا يجب ألا ننسى أيضا أن الدول الأخرى التي ستشكل مجموعة القوى العالمية الكبرى في المستقبل، والتي تأتي على رأسها الولايات المتحدة الأميركية والصين والهند، هي كلها دول تنتمي في الأساس إلى نموذج الدولة - الأمة، وأن صعود الدول العملاقة التي تعادل كل منها قارة بأكملها (الصين والهند على سبيل المثال) يعني أن نموذج الدولة – الأمة، في شكله الجديد لن يدخل مرحلة الأفول، بل إنه قد يصبح أكثر أهمية ومركزية مما كان عليه من قبل.
وبعض الحجج التي يسوقها المؤلف في سياق مناقشته عن الصين تتميز بالغرابة . من ذلك على سبيل المثال قوله إن الصين تتحول بشكل تدريجي كي تصبح أحد حواريي أو مريدي الاتحاد الأوروبي، وأن ذلك يبدو من خلال ارتباطها المتزايد بالسياسات الأوروبية القائمة على التعددية والتكامل الإقليمي. قد يكون ما يقوله المؤلف بصدد هذه الجزئية صحيحا نسبيا، ولكن الحقيقة هي أن الصين لم تبدأ في انتهاج هذه السياسات إلا منذ فترة قريبة لأنها ليست من السياسات ذات الجذور الراسخة في التربة الصينية، علاوة على أن اتباعها لتلك السياسات لا علاقة له بتزايد نفوذ الاتحاد الأوروبي، وإنما جاء بدوافع ذاتية بحتة تقوم على تحقيق المصلحة الذاتية في المقام الأول