على الرغم من أن القانون الدولي يعتبر من الموضوعات التي قد تبدو في الظاهر، ذات قدرة محدودة على اجتذاب القراء، إلا أن هذا الموضوع في الحقيقة أصبح خلال العامين الماضيين - وفي سياق محاولة الإدارة الأميركية إثبات شرعية الحرب على العراق- في قلب الجدل السياسي في أميركا وبريطانيا وغيرهما من الدول الغربية. وهناك أسباب أخرى لازدياد أهمية القانون الدولي من أهمها أن الحركات المناهضة للعولمة، لفتت الانتباه إلى تعقيدات القانون الدولي، وتفرعاته، وتأثيره على الدول النامية. وهذا الكتاب الذي نقوم بعرضه هنا وعنوانه:"عالم خارج على القانون: أميركا وصنع القوانين العالمية وانتهاكها". لمؤلفه " ديفيد ساندز"، حظي باهتمام خاص من وسائل الإعلام في الغرب بسبب الحقائق التي كشف عنها، والتي أثبتت بطلان بيان وزير العدل الأميركي، الذي ادعى فيه أن الحرب على العراق كانت شرعية. وفي سياق تناوله لتطور القانون الدولي منذ الحرب العالمية الثانية، والموقف الأميركي الجديد والخاص بالانسحاب من المعاهدات الدولية، وتبني سياسة أحادية على الساحة الدولية، كان لابد للمؤلف من التطرق إلى الحديث عن طبيعة النظام الدولي ومستقبله. والمؤلف يقول إنه على الرغم من حقيقة أن قسما كبيرا من القانون الدولي قد صيغَ قبل عام 1954، إلا أن التطور الحقيقي لهذا القانون، وازدياد نفوذه، حدثا في الفترة التي تلت ذلك التاريخ والتي استمرت حتى وقتنا الحالي. وهو يقول كذلك إن تطور القانون الدولي، قد تم في صورة محاولات واعية من جانب الغرب، وعلى وجه الخصوص أميركا، وإلى حد ما بريطانيا، لصياغة قانون دولي وفق رؤيتهما؛ وأن الجزء الأكبر من القانون الدولي يختص في الأساس بالتجارة والاستثمارات الخارجية. والمؤلف يبين لنا كيف بدأت القواعد القانونية المتعلقة بالاستثمار الخارجي تتبلور في فترة الستينيات من القرن الماضي، وذلك في صورة رد فعل مباشر لبزوغ الدول القومية الجديدة، التي كانت قد نالت استقلالها وتحررت من نير الاستعمار في ذلك الوقت، وأن تلك القوانين قد حاولت تكبيل الحرية السياسية التي حصلت عليها تلك الدول بقيود اقتصادية. وهو يقول أيضا إن تلك القوانين التي أحيطت بنطاق من السرية هي التي صبغت ما يعرف باسم مشروع العولمة الليبرالية الجديدة. والفصول التي يتناول فيها الكاتب موضوعي التجارة والاستثمار، تُظهر لنا كيف أن تلك القوانين في الحقيقة غير منصفة ومنحازة للغرب، وأنها كانت تُصاغ، وتمارس في الكواليس الدستورية التي لا تخضع لأية مساءلة سواء من قبل مجالس الوزراء أو البرلمانات.
على الرغم من تلك المثالب، فإننا نجد أن المؤلف يعبر عن تفاؤله بخصوص قيمة القانون الدولي، وفعاليته المستقبلية، وخصوصا في ذلك الفصل الذي ناقش فيه الحكم الصادر ضد ديكتاتور شيلي "بينوشيه" والذي يرى أنه - الحكم- قد وضع مسألة حقوق الإنسان فوق سيادة الدول واستقلالها. كما يقوم المؤلف كذلك بإجراء تقييم إيجابي لمحكمة الجزاء الدولية، ويبين لنا كذلك أن القوانين الهادفة لحماية البيئة، وخصوصا في مجال التغير المناخي، وأهمها "بروتوكول كيوتو"، هي قوانين ضرورية للغاية بالنسبة لأي جهد جاد يهدف إلى الحد من ظاهرة الإحماء الحراري وحصارها. كما يذهب إلى القول أيضا إن صياغة القوانين الدولية، حتى في الحقل الاقتصادي أصبحت مسألة مفتوحة حاليا أمام المزيد من اللاعبين على الساحة الدولية، بما فيها الدول النامية، بل والمنظمات غير الحكومية. يتطرق المؤلف بعد ذلك إلى موقف الإدارة الأميركية من القانون الدولي، ويقول إن الإدارة الأميركية قد قررت منذ أن جاء بوش إلى سدة الرئاسة الانسحاب من المعاهدات الدولية، وأدارت ظهرها لمحكمة الجزاء الدولية، وعملت على توفير كافة الضمانات التي تحول دون مثول أي من مواطنيها أمام تلك المحكمة، وانسحبت من "بروتوكول كيوتو"، وانتهكت قواعد القانون الدولي الخاص بأسرى الحرب، كما حدث في معتقل "جوانتانامو"، وذلك بعد أن كانت قد قامت قبل ذلك بالتعدي على القانون الدولي، وتجاهل المنظمة الأممية، بغزوها للعراق، ثم استهتارها بكافة القوانين الدولية، التي تحرم ممارسة التعذيب ضد المعتقلين (كما حدث في سجن أبوغريب). وفي معرض شرحه للأسباب التي دعت الولايات المتحدة إلى تبني هذه السياسة، يقوم المؤلف بتسليط أضواء كاشفة على طبيعة الثورة التي قام بها المحافظون الجدد في السياسة الأميركية، وتصميمهم على صياغة العالم وفق رؤيتهم، وبما يحقق المصالح الأميركية فقط. ويذكر المؤلف أسبابا أخرى للتغير في الموقف الأميركي، منها أن بعض جوانب القانون الدولي قد أصبحت خاضعة لتأثير بعض اللاعبين الآخرين على الساحة الدولية، الذين لا تستريح الولايات المتحدة للتعامل معهم. بيد أن المؤلف وهو يوضح ذلك يغفل - أو يقلل من أهمية- ما يمكن وصفه بالبعد السياسي للقانون الدولي. فهذا القانون يظل على الرغم من كل شيء، وظيفة من وظائف القوة (قوة الدولة – الأمة) وليس هناك في العالم من هو أقوى من الولايات المتحدة. في الختا