على سطح منزل مجاور للمسجد، كنا ضيوفا على إمامه، القارئ المعروف والشيخ الشاب الجليل، جمع من الصحويين الشباب ،إن جاز التعبير، وهو اصطلاح لم استخدمه من قبل، ولكن أراه قد أصبح سائدا هذا الأيام، كنا نعيش يومها أجواء "أزمة الكويت" في وسط حالة ما بعد الغزو وما قبل الحرب.
تلك "الحالة" التي انعكست علينا محليا في المملكة بانفجار في الأسئلة، ورمت بأكثر من حجر في بركتنا الساكنة التي تعودنا العيش بجوارها دون أن نسال كثيراً من أين والي أين؟ كان ضيف الشرف في تلك الأمسية الربيعية داعية كويتي معروف حدثنا عن قضية بلدهم المحتل، وتطلعاتهم إلى كويت أكثر إيمانا وإسلاما بعد تحريرها، وعرض علينا "الهيئة العالمية للتضامن مع الكويت" وهي هيئة شكلها الإخوان المسلمون في الكويت بغية أن يكون لهم دور مميز في عملية إنقاذ وطنهم، ومن أجل حشد دعم العالم الإسلامي لقضيتهم، وهو العالم الذي حار شارعه ورأيه العام بل حتى قياداته في قضية الكويت، ودفع ثمن تلك الحيرة تمزقا وفرقة ورؤية ضبابية لم يخرج منها لليوم لا تزال تلاحقه وهو يتفاعل مع قضايا أخرى بعد الكويت.
كان بيننا ليلتها، أسامة بن لادن وهو غير أسامة الذي نعرفه اليوم، شاب معتدل، صنع اسمه في جهاد مشرف في أفغانستان، متواضع ولكن يحاط باحترام شديد ممن حوله، جاء دوره للحديث فقال إنه قلق من مخطط يؤمن أن الأميركيين يحيكونه ضد المملكة وأكد أن ملامحه ستتضح بعد الحرب، يهدف إلى علمنة المملكة العربية السعودية، وإحداث تعديل جذري في نظام حكمها بفرض رئيس وزراء علماني (حتى أن أسامة سمى للمنصب سعوديا معروفا لن يغيب اسمه عن أي سعودي يتذكر الوجوه البارزة في تلك المرحلة) ويتبع ذلك فصل للدين عن الدولة، وفرض لقوانين وضعية، وإقصاء للشرع والدين عن الحياة العامة والمناهج الدراسية، وتشجيع لنزع الحجاب والعفة عن المرأة بدفعها للعمل والاختلاط مع الرجال، وإشاعة للفساد من خلال الفن والانفتاح، ودعا في ختام حديثه إلى ضرورة التنبه والحذر ورص الصف والالتفاف حول القيادة حتى لا تضعف أمام هذه الهجمة العلمانية الشرسة والقادمة لا محالة حسب رأيه بدعم أميركي خارجي بات له جند وعدة في داخل الوطن، وطابور خامس من السعوديين الجاهزين لخدمة المشروع الأميركي التغريبي.
قمنا بعدها إلى العشاء الذي مدت سفرته في جانب آخر من السطح فجال بصري تجاه منارتي المسجد الأنيق الشاهقتين وتخيلتهما والمسجد كـ"أيا صوفيا" في اسطنبول، مجرد متحف يؤمه السياح الغربيون والمصلون العجائز، الأسواق من حول المسجد وقد تحولت إلى ملاهٍ، شباب وشابات يتمازحون في الحديقة المجاورة، عبث ومسخرة، انهارت الدولة الإسلامية السعودية، وضرب آخر معقل للشريعة، ضربة أخرى قاتلة للإسلام تضاف إلى يوم سقوط بغداد بيد المغول ويوم دخلت خيل "بونابرت" الأزهر ويوم سقطت الخلاقة في تركيا على يد "أتاتورك". كابوس مخيف ترتج من هوله قلوب مؤمنة!
ولكن أزمة الكويت انتهت، وعاد الداعية الكويتي إلى بلده المحرر، إلى أشرطته ومحاضراته التلفزيونية في زمن الفضائيات، أما أسامة فلقد أفضى إلى ما هو عليه الآن يتحسر عليه إخوانه ومحبوه.
ولم تنهار الدولة، ولم يقع المخطط الأميركي، ولا يزال شرع الله يَحكم ويُحكم في بلاد الحرمين، بل لا تزال المملكة العربية السعودية هي الأكثر استقرارا ورخاءً في زمن اقتلعت ولا تزال تقتلع عواصف التغيير آخرين من جذورهم، وتقود مع ذلك عملية التغيير والإصلاح داخل الوطن وخارجه.
ولكن لا تزال سياسة الاستقواء بصنع الكوابيس تستخدم، لا تزال عملية التهويل والتخويف من المخطط العلماني المدعوم أميركيا على أشدها من خلال منابر المساجد والمدارس والمقالات والأشرطة والأحاديث التلفزيونية والتلميح والتصريح، أدواته تقسيم المجتمع وإدخاله في حالة استقطاب مرضي، سيهز لا محالة وحدتنا الوطنية ما لم يوقفه عاقل، وسيدفع القوي القادر على اتخاذ قرارات مؤلمة ولكن ضرورية لمن غرته قوته المزعومة، واستمرأ التكسب من بهذا الأسلوب الرخيص المدمر.
هؤلاء يبررون بالكوابيس التي يصنعونها وجودهم، وتحزبهم، ومحاولاتهم للتمدد، والتجاوز على صلاحيات الآخرين، وفي مسعاهم للاستفراد بالقوة، يلغون الآخر، صنعوا خرافة "بني علمان" كي يبقوا وحدهم "بنو إسلام" شوهوا أجمل واهم جزء في مسيرتنا الإصلاحية وهي الانتخابات البلدية برفع ألوية فرقة "صوتوا ياأهل الرياض لهذه القائمة المزكاة من قبل كبار العلماء لقطع دابر بني علمان" أما في الشرقية "فصوتوا لأهل السنة واقطعوا الطريق أمام الرافضة" وفي جدة يحشدون الصف ضد "الصوفية والمبتدعة ".
علمية تقطيع وتجزئة للوطن سندفع جميعا ثمنها وتكلفتها الغالية، وفي النهاية يكونون وحدهم الفائزين ولكن على أكوام خربة.
إنهم مثل "دون كيشوت" يصنعون خيالات يحاربونها، غير موجودة إلا في مخيلتهم المريضة، أحدها ذلك "الفاسق الفاجر المحارب لدين الله، رأس العمالة والخيانة على حد زعمهم، أستاذ اللغويات المدعو حمزة المزيني" الذي حكم عليه بالجلد