العدالة تكون محلية ودولية، داخلية وخارجية، أو لا تكون. بعد رواندا وصربيا، ها هي مرحلة محاكمات عربية تأخذ مكانها في المشهد الدولي. خلال أسبوع واحد اتخذت وستتخذ في الأمم المتحدة قرارات من شأنها أن تقود مسؤولين أمنيين سودانيين ولبنانيين إلى محاكمات دولية. بديهي إن هذه الخطوة لا تتناقض فقط مع "السيادة" بل تسحقها، والأكثر بداهة أن الخطأ لا يكمن في التحرك الدولي وإنما في العبث المحلي. فليس مجلس الأمن من ارتكب جرائم دارفور، ولا هو من دبّر في بيروت جريمة اغتيال رئيس الوزراء السابق وقد استُشعر قتله كزلزال في الوجدان اللبناني. ومن دون تلك الجرائم وذلك الاغتيال كان القضاء ولا يزال هيكلاً مهزوزاً لا يتمتع بالنزاهة والمصداقية، أو بالاستقلالية المفترضة، ليس فقط في البلدين المذكورين وإنما في محيطهما بأجمعه.
لكثرة ما جرى التلاعب دولياً، بالقيم الإنسانية ومبادئ العدالة واحترام الحقوق والقوانين، ما لبثت الأنظمة والحكومات أن اعتبرت القضاء أداة في ألاعيبها ووجدت في التسلي بقولبته وتكييفه حقاً ومكسباً لها. وأدى تضييع المعايير والكيل بمكيالين دولياً إلى تسويغ كل الجرائم وتبريرها محلياً بملاحقات متجنية، واعتقالات تعسفية، واستجوابات تحت التهديد، واعترافات للخلاص من التعذيب، وابتزازات تجعل السيناريو المفتعل دليلاً صلباً، وأخيراً محاكمات يطلب فيها من القاضي أن يترك عقله وضميره خارج القاعة، ليتمكن من إعلان الحكم المرسوم سلفاً. كان ذلك صدى لـ"عدالة" مبددة ومبعثرة في الساحة الدولية. ولا يعني ذلك أن الدولة أو الدول التي تعبث بالعدالة وأسسها في الخارج لا تتمتع بنظام عدالة في الداخل، لكنها لا تعبأ بتطبيقه بل تهتم بمصالحها على حساب مبادئها.
مضت شهور طويلة، أكثر من سنتين، ولم تستطع الخرطوم أن تضع حداً لمقتلة تدور على أرضها، مهما بلغ التضخيم والتلفيق، فالثابت أن آلافاً من الفوريين السودانيين، رجالاً ونساء وأطفالاً، قضوا في دارفور. ونشب جدل سقيم في المجتمع الدولي حول ما إذا كان الذي يجري هناك جرائم "إبادة" أم جرائم ضد الإنسانية أو مجازر جماعية أو مجرد أعمال قتل في مناخ فوضى، وانعدام أي تأثير للدولة أو لقواها الأمنية. أنكر المسؤولون السودانيون كل مسؤولية، تبرأوا من "الجنجاويد" ومن شابههم، ورفضوا كل أنواع التدخل الخارجي لإعادة الأمن والنظام للمنطقة. قالوا إنها "مؤامرة"، وبدا أنهم يعرفون كل خيوطها، أدركوا أن حليفهم الموقع على اتفاق سلام معهم، "جون قرنق"، يلعب لعبة تحريض وتصعيد في دارفور، وفهموا أن ثمة مساهمة خارجية في إبقاء المنطقة مشتعلة، بل تبلغوا أن وراء الضغط الأميركي حسابات نفطية وليس اعتبارات إنسانية، ورأوا بأم العين أن هناك سعياً لإشعال شرق السودان وغربه بعد استتباب الهدوء في الجنوب. ومع ذلك لم يفلحوا في وقف هذه "المؤامرة" كأنهم يلمسون فيها مصلحة، بل تركوا مسؤولين معروفين بوجوههم وأسمائهم وأصواتهم يكتشفون متلبسين في إدارة القتل.
ومضت سنوات أيضاً في لبنان تربع خلالها حكم الأجهزة على عرشه بلا حسيب أو رقيب، إلى أن طفح الكيل من دون أن تتمكن الأجهزة من توقع العاصفة. سنوات طويلة من الاعتقالات والاستجوابات والمحاكمات الملفقة كانت كافية لتآكل سمعة القضاء وانعدام نزاهة التحقيق من دون أن يتنبه أحد إلى خطورة هذه الثغرة في سفينة الحكم. وحصلت الجريمة التي كان العالم كله يتوقعها بل يخشاها، لا أحد يحبذ التدخل الخارجي على هذا النحو، لكن الناس متروكون بلا أي خيارات أخرى، فهم لا يريدون الحقيقة فحسب بل يسعون إلى ما يمكن أن يردع القتلة بعدما طوّعوا كل شيء، الدولة والنظام والأمن والقضاء والقوانين.
مع ذلك، يفترض النظر إلى ما أوصلنا إلى هذا المستنقع، هناك طبعاً الفساد والقصور في الداخل، لكن خصوصاً الفساد والانتهازية في الخارج. ستكون هذه محاكمات مكروهة ومخجلة لكنها فرصة لتحقيق شيء من العدالة. غير أن الساعين إلى هذه العدالة هم أنفسهم الذين يحقّرون قيمها داخلياً، فالولايات المتحدة لا ترفض فقط التوقيع على معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وإخضاع الرعايا الأميركيين لها، بل هي نفسها التي تغطي على الجرائم الإسرائيلية بما فيها من عناصر إبادة ومن مجازر وتدمير بيوت ومدارس وسرقة أراضٍ. ولا تتوقف المفارقة الأميركية عند هذا الحد، فقد أصبح معترفاً به رسمياً أن الحرب على العراق شنّت استناداً إلى أكاذيب ومعلومات خاطئة وغير دقيقة، لكنها كلفت أكثر من مئة ألف قتيل، ولا نسمع عن محاسبات أو محاكمات، لا داخلية ولا خارجية. فكيف لـ"العدالة" أن تكون واحدة للجميع وفوق الجميع؟