قصة الطبيب "فيزاليوس"
في عام 1562 كان الجراح والمشرح "فيزاليوس" قد هرب من إيطاليا بعد أن اتهم بأنه شديد الوقاحة بنقضه لأفكار "جالينوس" العظيم في الطب، عندما قام بتشريح الجثث، وأبدى اعتراضه أن "جالينوس" قد يكون شرح جثث الخيل والبغال والحمير، ولكنه لم يشرح قط جثث بني آدم. فليس الفك قسمان، ولا عظم القص سبعة، ولا الكبد فصوصا، وليس القلب مكان التفكير، ولا يوجد ما خيل لـ"جالينوس" بأنها فتحات بين البطينات في القلب، ولا عظام الفخذ مقوسة؟ و"جالينوس" غير "أبو قراط"، فالثاني يوناني عاش في القرن الخامس قبل الميلاد وما زال طلاب الطب في كل مكان يؤدون قسمه الأخلاقي مع التخرج لممارسة المهنة، والأول روماني فعل في الطب ما فعل "أرسطو" في الفلسفة فحبسه في قمقم، ولم يتقدم الطب حتى كسر مسلماته، ومن فعل هذا بشكل أكيد هو "فيزاليوس" الذي كان الكهنة يسترقون السمع لمحاضراته في "بادوا" حينما يتعرض لتشريح الأعضاء التناسلية، والجنس غابة عجيبة، ولكنهم أنكروا عليه نقده لـ"جالينوس"، وقالوا إن سبب استقامة عظام الفخذ هو بسبب لبس السراويل الضيقة في عصرهم؟ وعندما رست به عصا الترحال في أسبانيا دعي لمعالجة ولي العهد "دون كارلوس" ابن فيليب الثاني، الذي سقط من الحصان وغاب عن الوعي، فاقترح عليهم ثقب الجمجمة. ولما استشار الملك رجال الدين نصحوه بقراءة التراتيل على رأسه، ووضع التمائم على الجرح، أو أن يجلد قوم أنفسهم في العراء تكفيرا عن الذنوب. وأن يبتعد عن سحر وهرطقة "فيزاليوس". ولما ساءت حالة الأمير استدعاه الملك ففتح الرأس واستخرج كمية كبيرة من الصديد وتماثل للشفاء في ثمانية أيام. ويقول عنه الجراح الفرنسي المشهور "إمبروز باريه" في حادثة أخرى إنه "أثار غضب أسبانيا بأسرها عليه لأنه فتح بطن امرأة كان الظن أنها ماتت من اختناق الرحم، وبضربة أخرى من مبضعه ردت المرأة فجأة إلى الحياة. الأمر الذي بعث في قلوب الجميع من الإعجاب والرعب ما جعلهم ينظرون إلى الطبيب نظرتهم إلى مجرم بغيض" مما دفع "فيزاليوس" أن يهرب مرة أخرى من أسبانيا. وقصة الطبيب "فيزاليوس" هي المفرق بين فهم الكون بطريقة خوارقية أو سننية. وأعتى جبهات المواجهة عندنا هي فهم الكون بثلاث أفكار: أنه يقوم على سنن. وأن من يفهم السنن يتسخر له الكون. وأن قوانين الوجود متاحة لكل من أعمل عقله في فهمها، "كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا". وهناك عقليتان لمواجهة الوجود: العقلية "الخوارقية" التي تؤمن بأن الأحداث في الكون تجري بطريقة غامضة لا يمكن معرفة أسبابها. والعقلية "السننية" التي تؤمن بأن الأحداث في الكون تجري وفق قوانين يمكن للإنسان أن يكتشفها ويسخرها. وكثير من المسلمين يحلو لهم أن يتحدثوا عن المعجزات. مع أن القرآن ركز على السنن الكونية، "فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا". وفي قصة عرش ملكة سبأ المذكورة في القرآن ليس من المهم أن نعرف هل تم نقل العرش حقيقة أم أن القصة رمزية كما يعتقد البعض. وإن كانت رمزية فما هو الرمز الذي يمكن أن نستفيد منه؟ ولكن ما يخفى علينا إمكانية تصور نقل العرش بطريقتين: "طريقة خوارقية" عن طريق العفريت من الجن الذي نؤمن به، ولكن غير مطلوب التعامل معه قطعا. كما هو معروف في القرآن. وطريقة "سننية" عن طريق العلم "قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك". والآن بالعلم الذي تراكم خلال القرون يأتي لي "الذي عنده علم" بقصر "هنري الثامن" في طرفة عين فنشاهد كل زاوية وكل قطعة جمالية فيه بالأبعاد الثلاثة وهذا تحقق بالعلم وليس عن طريق الجن والعفاريت. ولكن يبدو أن بيننا وبين العلم سنة ضوئية.