حتى الانتخابات العامة التي جرت قريباً في العراق وفلسطين، ظل الجزء الغالب من العالم العربي، في حصانة تامة من رياح التغيير والديمقراطية التي هبت في كل ركن من أركان الأرض. لماذا؟ يا له من سؤال مهم. لكن على رغم أهميته، فقد جرى تفاديه، سواء في الغرب أم الشرق.
ففي الغرب كان السبب وراء تفادي السؤال، هو موجة من الصحة السياسية المسمومة التي ضربت مجال الدراسات الأكاديمية الخاصة بالشرق الأوسط، إلى حد جعل كل من يسلط الضوء في بحثه الأكاديمي الشرق أوسطي على غياب الحرية والديمقراطية في العالم العربي، عرضة للدمغ والاتهام بتهمة "الاستشراق". كما جرى تجاهل السؤال وتفاديه نتيجة لتأكيدات الحكومات الغربية للقادة العرب، أن كل ما تحتاجه حكوماتهم هو الإبقاء على تدفق وإنتاج النفط، والعمل على انخفاض أسعاره، إلى جانب تحسين العلاقات مع إسرائيل. ويعني هذا أنه إن التزمت الحكومات العربية بقائمة الواجبات هذه، فإنها تكون عملياً قد حرمت شعوبها من الحرية التي دعت ونادت بها أميركا في أنحاء أخرى من العالم.
وفي غضون ذلك، قيل للشعوب العربية في الداخل، من قبل القادة العرب والمفكرين والمثقفين السلطويين، إن الديمقراطية ستأتي في مرحلة لاحقة، عقب نهاية الكفاح الوطني ضد الاستعمار الأجنبي، وعقب تحرير فلسطين من براثن الاحتلال، أو عقب إعلان قيام الدولة الإسلامية.
لكن ونتيجة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، مقترنة بتحول العالم إلى قرية صغيرة، يستطيع فيها الكل أن يرى ما يدور ويحدث في حياة الآخرين، فقد تغير كل شيء تقريباً، على نحو ما أثبت التقرير الثالث حول "التنمية البشرية العربية" الصادر الأسبوع الماضي. وقد شاركت في كتابة وإعداد هذا التقرير، مجموعة جريئة من علماء الاجتماع العرب، برعاية البرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة. ويعد هذا التقرير، أحد أهم منجزات الأمم المتحدة في ظل سكرتارية كوفي عنان. يذكر أن التقرير الأول، الصادر في عام 2002، كان قد تناول بؤس وضعية التنمية البشرية في العالم العربي. أما التقرير الثاني الصادر في عام 2003، فقد تناول بؤس وضعية التعليم والعلوم في العالم العربي. وفي التقرير الثالث الصادر للتو، جرى تناول "العجز الحاد في الحريات وصلاح الحكم" في العالم العربي. وأظهر التقرير مدى تشوق الشعوب العربية إلى الحرية وصلاح الحكم، بما لا يقل عن شوق وتطلع أي شعب آخر، لهذين المطمحين. ومع ما بدا من تمكن العراقيين أخيراً من تشكيل حكومتهم الجديدة عبر العملية السياسية الانتخابية، فإنه ليس ثمة وقت أفضل من هذا، كي تسيطر فيه تلك الأشواق على الشعوب العربية.
لاحظ التقرير أن معظم الدول والحكومات العربية، تمثل اليوم ما يمكن تشبيهه بـ"الثقوب السوداء"، بحيث تتحول فيها البيئة الاجتماعية المحيطة، إلى وضعية كابحة للحركة والتغيير، وقابضة في الوقت ذاته، بحيث يستعصي الهروب منها. وضمن ذلك لاحظ التقرير أن كافة "الأحزاب السياسية، والمحاكم، والأجهزة الاستخباراتية، والشرطة، ووسائل الإعلام، تتمركز بقبضة القائد العربي، في البلد المعين". ومن هنا فلا غرابة في أن يطلق على الدولة العربية المعاصرة، لقب "دولة المخابرات". وعلى حد ملاحظة التقرير، فإن القاسم المشترك الأعظم بين كافة الدول العربية، هو "تمركز السلطة في قمة الهرم التنفيذي". أما هامش الحرية الذي يسمح به بين الحين والآخر – وهو هامش قابل للخفض والتضييق في أي وقت- فهو لا يؤثر البتة على قبضة الدولة المطلقة المحكمة على السلطة، في هذه البلدان.
لكن الملاحظ في الوقت ذاته – والحديث لا يزال للتقرير- أن هذه الدول، ستفتقر إلى الشرعية، ما لم تقف خلفها أغلبيات شعبية كبيرة. وفيما يبدو فإن البنى والهياكل الاجتماعية العربية، تميل بحكم تكوينها إلى تعزيز هذه الاتجاهات الأتوقراطية. "فالأسرة – التي تعد الوحدة الاجتماعية الأساسية في المجتمع العربي- تقوم على العشائرية، التي تغرس نزعة الخضوع في الأفراد، وتعتبر عدواً رئيسياً لاستقلال الفرد، ولجرأته الفكرية، ولازدهار ونمو شخصيته الإنسانية الحقة. وما أن يلتحق الأطفال بالمدارس، حتى يواجهوا بمؤسسة تعليمية ومناهج دراسية وطرائق في التدريس والتقييم، تقوم جميعها على الفرض وغرس نزعة الخنوع والخضوع. وهذه البيئة التعليمية، لا قبل لها بفتح منافذ الحرية والفكر والحس الناقد في الفرد".
أما الحلقة المكملة لدائرة كبح الحرية – فيما يلاحظ التقرير- فتتمثل في المجال السياسي، الذي يحد الحياة العامة للعرب، ويحصرها في نطاق ضيق محدود. ويمضي التقرير إلى ملاحظة أن هذه العملية المعقدة، قد دفعت المواطنين العرب - بمن فيهم بعض المثقفين- إلى الخنوع المغذى بمشاعر الخوف، بل وإلى إنكار حالة الخضوع نفسها، التي يرزحون تحتها!
ويختتم التقرير بالأمل في أن يحدث توزيع سلمي للسلطة في العالم العربي. غير أن مؤلفيه أعربوا عن مخاوفهم من ألا يطرأ أي تغيير على الواقع الراهن، مما يعني تصاعد "موجة الفوضى". ويخلص التقرير إلى التكهن باحتمال