انتفض مارد الإرهاب مجددا، وعادت أخباره السوداء تخط بحبرها الدموي القاني على صفحة الوطن العربي تاريخا مشوها وخطيرا. في السعودية كانت مدينة الرس الوادعة في الشمال الغربي لمدينة الرياض على موعد مع أطول عملية أمنية ضمن سلسلة عمليات لملاحقة عناصر "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" الذي بدأ نشاطه قبل سنتين، وشهد فترات ازدهار ومبادرة لكنه لم يلبث أن انحسر وأخذ طريقه للتلاشي، وفي الدوحة أعلن الإرهاب عن نفسه بعملية استهدفت مسرحا يجتمع فيه الغربيون، وكانت بصمات "تنظيم القاعدة" وأسلوبه واضحة في تفاصيل الحدث وأسلوب تنفيذه وإن لم تصدر الحكومة القطرية تقريرا مفصلا عن الحادثة حتى الآن، بل إن قناة "الجزيرة" التي تتحرق شوقا لمثل هذه الأحداث في العالم العربي اكتفت بعرض الحدث بشكل عابر.
وحادثة قطر رغم أنها حادثة منفردة تحصل لأول مرة، إلا أنها تدق ناقوس الخطر حول خطورة التراقص على حبال العنف الديني، أو محاباته أو دعمه واستغلاله كورقة سياسية لتصفية الحسابات مع الخصوم، لأن حركات العنف الديني في طول العالم العربي وعرضه أثبتت ألا حليف لها سوى أيديولوجيتها الصارمة وأن اللعب بها لعب بالنار، وليسأل من شاء الرئيس المصري الراحل أنور السادات فإن لم يجبه فلينادِ على شواهد قبره، بل ليسأل من شاء أميركا وحلفائها الذين دعموا الجهاد الأفغاني.
وفي لبنان عادت أشباح العنف تطل برأسها من جديد، وهي أشباح سياسية وليست دينية ولكنها حاولت يائسة أن تلبس القضية لباسا دينيا بالإخراج المسرحي الهزيل لملتح مسكين يدّعي أنه من اغتال الرئيس الحريري، وهو ما يشير إلى أن العنف الديني بلغ من الرواج والخطورة إلى أن تضطر بعض الكائنات السياسية الآيلة للانقراض لاستخدامه غطاء لأعمالها الإجرامية، ولعجز اللبنانيين عن حل مشكلتهم لوحدهم تدخل مجلس الأمن بقوة ليشكل لجنة تحقيق دولية في الحادث .
وفي السودان يشتعل أوار حرب شرسة ذات بعد عرقي وديني في "دارفور" ترتكب فيها أبشع الجرائم ويضطر مجلس الأمن للتدخل -ثانية- بعد أن أثبتت الحكومة السودانية عجزا مقززا عن إدارة الأزمة ونشر الأمن والعدالة بين مواطنيها، وبدلا من أن يستوعب الرئيس السوداني الدرس خرج يقسم بالله أنه لن يسلّم سودانيا واحدا للمحكمة الدولية، وهو قسم قابله الأستاذ عبدالرحمن الراشد بقسم يبدو أنه أبرّ من قسم السيد الرئيس وأقسم أن الرئيس سيكفر عن قسمه وسيعود لجادة الصواب سواء شاء ذلك أم لم يشأه، أما أن قسم الرئيس لن ينفذ فهذا أكيد وأما أنه سيكفر عنه فذاك شأنه مع ربه!.
وها هو الإرهاب يخرج من تحت التراب الذي طمرته فيه الحكومة المصرية قبل سنوات ليعلن عن نفسه بعلمية تفجير قرب الأزهر الشريف والحسين حيث المنطقة الشعبية الأكثر ازدحاما واستقطابا للسياح الأجانب والعرب .
الجزائر لم تزل تلملم جراحها من سطوة الإرهاب هناك، وخلفها المغرب الأقصى وتفجيرات الدار البيضاء العام الماضي، والعراق في أقصى المشرق يعاني الأمرّين من جماعات العنف الديني التي اخترقت أرضه وقتلت من أبنائه أكثر من القوات الأميركية التي تزعم أنها جاءت لتحاربها، و"أبو مصعب الزرقاوي" يتبنى في كل عام تفجيرا أو تفجيرين لمواطنين عراقيين يخالفونه مذهبيا، وجارته الكويت شهدت موجة من المواجهات الدامية مع عناصر إرهابية كويتية.
يا إلهي! ما الذي يجري؟ لم كل هذا العنف بيننا ومن حولنا؟ لا يكفي في رصد ظاهرة كهذه أن نشتمها أو نزعم أنها نزلت إلينا من السماء بـ"برشوت". إن إرهاب جماعات العنف الديني ليس نخلة خرجت خطأ في موسكو ولا جملا ضل طريقه في القطب الشمالي، إنه نخيل بيئتنا وقوافل ثقافتنا وسياساتنا واقتصادنا ومجتمعنا، ولئن كان للأحداث الخارجية أثر فيه إلا أن أثره الأكبر خرج من بيننا وصنعته أيدينا .
لا أحسب أننا قادرون على القضاء على الإرهاب ونحن نقدم رجلا ونؤخر أخرى في قراءته قراءة صادقة وصريحة نخلع فيها عنّا رداء النرجسية والكبرياء الزائف، و نرمي عن أعيننا نظّارة الكمال المزعوم ولا نتذرع إلا بالحقيقة والعزيمة على الإصلاح والتغيير.
لسنا بمعزل عن العالم وعجزنا عن حل مشاكلنا سيطمع الآخرين في التدخل لحلها بأنفسهم - كما تدخل مجلس الأمن في لبنان والسودان وكما تدخلت الولايات المتحدة من قبل في أفغانستان والعراق- ذلك أن إرهابنا وإن كان صناعة محلية فإنه بات يصدر نفسه للآخرين ويضرب هنا وهناك من نيويورك إلى مدريد ومن بالي إلى موسكو، ولئن كان ضغط العالم على بعضنا خفيفا نسبيا في الفترة الماضية فإن عملية إرهابية أخرى كفيلة بأن تسلّط علينا من يجتث هذا الشرور من أوطاننا دون أن يبالي بنا أو بما سيجتثه مع هذه الشرور من سيادتنا واستقلالنا و"هويتنا"! ليس للإرهاب ترياق سحري يقتلع جذوره، ولا مصل يمنع انتشاره، لأنه ليس حدثا عابرا ولا جريمة فردية، إنه منظومة متكاملة ساهمت فيها عوامل متشابكة يتداخل فيها الديني بالسياسي، ويتجاور فيها الاجتماعي بالاقتصادي، والتعليم والإعلام والثقافة أجزاء لا تتجزأ من المنظومة ا