قال صاحبي: "لما كان مصطلح "المجتمع المدني" يثير من المشاكل ما ذكرت، خصوصا كونه مقابلا أو مناقضا للمجتمع الذي يعتمد الدين كنظام وسلوك، فلماذا لا نستعمل بدله مصطلح "المجتمع الأهلي"، وبدل "مؤسسات المجتمع المدني" مصطلح "المؤسسات الأهلية" أو "الجمعيات الأهلية"، كما تفعل وسائل الإعلام وكثير من الكتاب والمثقفين في مصر، خصوصا وأنت تؤكد مرارا في كتاباتك القولة المأثورة "لا مُشاحَّة في الألفاظ".
فعلا، لا مشاحّة في الألفاظ إذا كانت تدل على نفس المعنى الذي حصل الاتفاق عليه بين المتحاورين. أما إذا كان كل لفظ يحمل وراءه تاريخا مستقلا أو مختلفا، فالمشاحة هنا ضرورية. فعبارة "المجتمع الأهلي" تحيل إلى "الأهل"، وأهل الرجل في اللغة العربية هم "عشيرته وأقاربه"، وفي أوسع معانيها: قومه، بمعنى أهل بلده. وإذا نحن استحضرنا مبدأ "بضدها تتميز الأشياء" فإننا لن نجد مصطلحا مضادا لمصطلح "المجتمع الأهلي" غير ضده على صعيد اللغة وهو "المجتمع الأجنبي"، وهذا ليس هو المقصود عندنا اليوم. ولعلنا نتذكر أنه عندما كانت أقطارنا مستعمرة بالأجنبي لم نكن نعترف بوجوده كـ"مجتمع"، ولم نكن نستعمل للدلالة عليه سوى كلمة واحدة هي "الأجانب"، وبالمقابل كان المستعمر يستعمل للإشارة إلى سكان البلاد الأصليين مصطلحا لا يخفي ما يحمله من معاني القدح، أقصد لفظ "الأهالي". وفي هذا الإطار كانت هذه الكلمة تعني ليس فقط "السكان الأصليين" بل أيضا: "السكان غير المتمدنين"، وقد سموهم في كثير من كتاباتهم "العلمية" بـ"الشعوب المتوحشة" والآن ما زال تعبير "الشعوب المتخلفة" ساريا...
"المجتمع الأهلي" تعبير عربي أصيل، ما في ذلك شك، ولكنه يضم الحاكم والمحكوم، المستبد والعادل، الظالم والمظلوم، المتزمت والمتفتح، المعتدل والمتطرف... فهؤلاء جميعا جزء من الأهل، من القوم. أما عبارة "الجمعيات الأهلية" فهي وعبارة "الجمعيات الخيرية" تحيلان إلى نشاط اجتماعي خيري تطوعي يقوم به أناس خارج أجهزة الدولة وإدارتها، في المدينة كما في البادية، في إطار القبيلة والطائفة، أو خارجهما ولكن دون "البراءة" منهما. هذا في حين أن عبارة "المجتمع المدني" تحمل معنى آخر يجعلها الطرف المقابل لـ"الدولة" من جهة. والطرف المقابل لكل من القبيلة والطائفة والكنيسة من جهة أخرى. ذلك أن لفظ "مدني" هنا لا يحيل إلى "المدينة" بوصفها نظام حياة يختلف عن نظام الحياة في البادية فحسب، بل إنه يحيل أيضا إلى معنى "المواطنة". فـ"المجتمع المدني" هو أولا وقبل كل شيء "مجتمع المواطنين" ولا يحتمل أبدا أن يكون "مجتمع الرعية"، لأن "مجتمع المواطنين" هو النفي لـ"مجتمع الرعية". وعبارة "المجتمع الأهلي" لا تتناقض مع عبارة "مجتمع الرعية" بل هي لها مرادف وتوأم.
وإذا نحن تجاوزنا الآن هذه "المشاحة" في الألفاظ، بعد أن تبينت فائدتها هنا، ونظرنا إلى الواقع العربي، من المنظور التاريخي الحضاري العام، فإننا سنجد أن الأمر يتعلق بعملية تحول حضارية كبرى، عملية انتقال المجتمعات العربية من حضارة البادية والقرية وعقليتها وسلوكها، فضلا عن اقتصادها، إلى حضارة المدينة التي تهيمن فيها الصناعة والتجارة والخدمات العامة. من مجتمع المؤسسة الطبيعية (القبيلة وما في معناها) إلى مجتمع المؤسسة العقلانية، من "المجتمع الأهلي" إلى "المجتمع المدني". ونقطة "الحرج" في عملية التحول هذه هي كونها تتم بوتائر سريعة وعلى مدى واسع جدا، مما يجعلها تتعرض لتقلبات وانتكاسات. ذلك لأن عوامل التحول وبواعثه ليست نابعة فقط من جوف المجتمع بفعل تطور داخلي، كما حدث في أوروبا، بل إنه انتقال أو تحول يتم تحت ضغط حضارة عالمية أغرقت الكرة الأرضية بمنجزاتها وإغراءاتها وآلياتها، ففرضت نفسها كحضارة للعصر كله، كتتويج للمراحل السابقة من التاريخ البشري.
من هنا تعاقب النخب الجديدة في العالم العربي - والعالم الثالث عموما - تعاقبا سريعا جدا لا يترك فيه اللاحق للسابق فرصة بسط هيمنته عبر مؤسسات تنشأ بفعل تراكم منجزاته وخبراته وإشباع طموحاته. إن ما يحدث هو أن تعميم معطيات الحضارة الحديثة عبر نشر التعليم ووسائل الإعلام وانتشار السلع وما يرافق ذلك من تعميم الوعي الاجتماعي والسياسي، كل ذلك يستحث الناس، وخاصة الأجيال الجديدة، على التطلع إلى وضعيات ومواقع أفضل وأرقى. فلم يعد ابن الفلاح محكوما عليه أن يكون فلاحا ولا ابن الحداد أن يكون حدادا، كما كان الشأن في الماضي حينما كانت التطلعات الفردية والجماعية مؤطرة داخل مجالات محدودة ومواقع موروثة أبا عن جد. لقد أصبحت المجالات والمواقع مفتوحة كلها بفضل نشر التعليم وانتشار وسائل الإعلام وما يتبع ذلك من تعمق الوعي السياسي والاجتماعي. ولقد قوى هذه التطلعات وأضفى عليها صبغة الممكن القابل للتحقق حاجة دولة الاستقلال إلى الكوادر والموظفين، وبروز حاجات جديدة تتزايد باستمرار. فكان طبيعيا إذن أن تتزاحم النخب وتتعاقب بتزاحم الأجيال الصاعدة وتعاقبها، خصوصا ونسبة المواليد مرتفعة جدا. والنخب ليست في نهاي