لا يشبه البابا في حكمه إلا سلاطين العالم العربي، فهم يحكمون حتى الموت بدون استقالة أو إقالة. والاستبداد السياسي تلميذ متواضع في مدرسة الاستبداد الديني. وأي تساؤل حول هذا هرطقة. والسعيد من مشى بدون اعتراض وسلم عقله للمؤسسات الدينية، أو هتف في المظاهرات للقائد الأبدي بالدم بالروح نفديك يا أبو الجماجم؟ والدين غير المؤسسات الدينية، فالمسيح لم يعلن نفسه ربا، ولكن المؤسسة الدينية حولت الناسوت إلى لاهوت، والعبد المخلوق إلى إله يدير الكون. والمسيح لم يقل ولا في الإنجيل فقرة تنص بأن الله انشطر إلى ثلاثة، ولكن المؤسسة اخترعت مركب الأقانيم. وباعت تذاكر لدخول الجنة مثل صالات القمار والسينما. وعلى هذه المؤسسة الدينية الفاسدة اعترض "مارتن لوثر"، متأخرا عن الإسلام ثمانية قرون، ومن أجل ذلك ثار، ومن عقابيل هذا انفجرت حرب طاحنة دامت ثلاثين سنة على الأرض الألمانية مات فيها ثلث السكان، بحيث اضطرت الكنيسة إلى إصدار مرسوم "نورمبرغ" يحلل الزواج بأكثر من واحدة، اقتداء بسليمان عليه السلام الذي تزوج 900 امرأة.
مات البابا واجتمع في جنازته السياسيون المنافقون يتبادلون الكذب، ويضمر كل واحد للآخر خنجرا على طريقة الحشاشين. ولكن عالما لاهوتيا هو "هانس كونج" Hans Kueng قام بعمل نقدي، باستعراض أهم منجزات البابا.
ويعتبر الثيولوجي المنشق من أهم علماء اللاهوت الكاثوليك في العالم، أصدر عام 1979 كتاباً يتساءل حول عصمة البابا، كلفه أن تسحب منه الكنيسة ترخيص الوعظ وتعلن براءتها منه. ومنذ ذلك الوقت دخل الرجل في حرب طاحنة مع هذه المؤسسة الدينية مثل عصفور يواجه ديناصوراً. ومن حماه كانت الدولة الألمانية، وهو يبلغ الآن من العمر 75 عاماً، ويدرس في جامعة "توبنجن". وفي مجلة "شبيجل" عدد 13 2005، تحدث الرجل عن (التناقضات التسعة). ويجملها في حقوق الإنسان الذي لم توقعه الكنيسة حتى اليوم، والنظرة العنصرية ضد المرأة، والفضائح الجنسية التي يمارسها رجال نذروا أنفسهم للتبتل، ورهبانية ابتدعوها قلصت عدد القسس ويتم استيرادهم حاليا من أفريقيا وسيريلانكا، وعلاقات سيئة مع بقية الفرق المسيحية، وسياسة شخصية وصفها بالحرف الواحد أنها الطاعة غير المشروطة مثل أداء اليمين النازية لـ"الفوهرر". ونظام كنسي "أكليركي" عصي على الإصلاح؛ فهو ينادي بالحوار، ويخنق في الداخل كل حوار، في قبضة شمولية لكنيسة رومانية من القرن الحادي عشر، لينتهي إلى أن الاعتراف بـ"الأخطاء التاريخية" لم يزد عن كلمات جوفاء، ليخلص إلى حكم في غاية القسوة، ويقول: إن وضع الكنيسة بالغ الخطر، وإنها في طريق مسدود ما لم يقم البابا الجديد بإصلاحات حقيقية. وهي أجراس إنذار لطواغيت العرب الذين أصيبوا بالصمم منذ عصر كافور الإخشيدي.
وفي الواقع فهناك مزايا إيجابية للبابا؛ فكل منا يؤخذ منه ويرد عليه، ولكن مشكلة العصمة تدخلنا باب المستحيل وتكرس الأخطاء، وهو ما تورطت فيه الكنيسة، وخسرت الرهان منذ عصر التنوير، ونيتشة واجه الكنيسة بحدة فأعلن موت الله، وهو في الحقيقة إعلان لموت الكنيسة، ويقول: من أراد الراحة فليعتقد ومن أراد أن يكون من حواريي الحقيقة فليسأل؟ ويتعجب المرء أحيانا كيف تخلصت أوروبا من قبضة الكنيسة؛ فمحاكم التفتيش بقيت تعمل بكامل طاقتها خمسة قرون. وينقل عن "فولتير" حرق مليون امرأة بتهمة السحر الأسود، ليطلق صرخته: اسحقوا العار واشنقوا آخر قسيس بأمعاء آخر إقطاعي، وهو فصل أسود أعلن نفس البابا الراحل براءته منه في "بروسترويكا" كنسية، وفتح الباب لمراجعة 4500 وثيقة من أقبية الفاتيكان تعود لعصر التفتيش، وحتى نفهم سر هذا التحول فيجب النظر إلى قصص تقشعر منها الأبدان، لأناس مشوا على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع. فـ"جيوردانو برونو" احتفل الناس في مكان حرقه في روما بعد مرور أربعة قرون. وحتى اليوم فالكنيسة لم تعِدْ له الاعتبار، لأنه رأى أن المسيح لم يكن ليفدي نفسه من أجل كوكب تافه مثل الأرض في كون لا نهائي.