في الحادي والثلاثين من شهر مارس الماضي، شهد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تصويتا تاريخيا (11 صوتا مقابل لا شيء) صدر بموجبه تفويض للمجلس يخوله سلطة تحويل المسؤولين عن ارتكاب الفظائع في منطقة دارفور في السودان، للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية في مدينة لاهاي.
وقد وصف وزير الخارجية البريطاني "جاك سترو" ذلك التصويت بقوله:"إن ذلك التصويت يمثل خطوة أخرى على طريق تطوير العدالة الدولية، ونزع الحصانة عن مرتكبي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والمذابح الجماعية".
باعتباري من المؤيدين المتحمسين للأمم المتحدة، فإنني كنت قد شعرت بسعادة غامرة، عندما تم تأسيس المحكمة الجنائية الدولية في العاصمة الإيطالية روما في شهر يوليو من عام 1998. فقبل هذا التاريخ كانت البُنى القائمة لمساندة حكم القانون الدولي، قد فشلت كلها فشلا ذريعا في القيام بوظائفها على النحو الصحيح.
خلال الجزء الأكبر من حياتي، كنت أسمع بصفة منتظمة الكثير من الكلام عن إنشاء محكمة جنائية دولية، الهدف منها إحضار الأشخاص المسؤولين عن ارتكاب الجرائم البشعة مثل التعذيب، والإبادة الجماعية للمثول أمامها. ولكن تلك المحكمة لم تشهد النور، لأنه كانت هناك على ما يبدو عقبات كثيرة تحول دون إنشائها. وإنني أعتقد أن محاولة هتلر لقتل اليهود في جزء كبير من الدول الواقعة تحت السيطرة النازية خلال الحرب العالمية الثانية، هو الذي ساعد في الحقيقة على ولادة المحكمة الجنائية الدولية. ولعلنا لا ننسى في هذا الصدد محكمة "نورمبرج" التي قامت بمحاكمة مجرمي الحرب النازيين عامي 45- 1946. كما لا يفوتنا كذلك أن نذكر أن مصرع 30 مليون رجل وامرأة وطفل على يدي الطاغية جوزيف ستالين في الاتحاد السوفيتي السابق، كان أيضا من ضمن العوامل التي ساعدت على إنشاء تلك المحكمة.
على هذه الخلفية التاريخية، كان من المثير للاستغراب أن تكون إسرائيل واحدة من بين سبع دول عارضت إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما فعلته أيضا دول أخرى منها الولايات المتحدة، والصين والهند، في حين امتنعت 20 دولة عن التصويت، كما لوحظ أن الدول العربية لم تكن متحمسة لإنشاء تلك المحكمة أيضا.
في يوليو 2002، دخلت معاهدة روما حيز التنفيذ، بعد أن حصلت على التصديقات الضرورية، وعددها 60 تصديقا. ومما يذكر في هذا السياق أن مجلس الأمن الدولي، لم يقم - قبل حالة دارفور- بإحالة أي قضية إلى محكمة الجنايات الدولية.
كما توقعنا، كانت هناك مناقشة رئيسية بشأن ما إذا كان يتوجب على كل دولة أن تمنح موافقتها أولا، قبل أن يتم مثول مواطنيها أمام المحكمة أم لا. ولوحظ أن القلق الأميركي بشأن هذه النقطة تحديدا كان كبيرا للدرجة التي دفعتها إلى التصويت ضد إنشاء المحكمة الجنائية الدولية.
وهناك جدل آخر احتدم حول الحجة التي كانت تقول إن إحضار المجرمين أمام المحكمة الجنائية الدولية، سيزيد من درجة صعوبة تحقيق السلام والاستقرار في الدول التي جاءوا منها. وكانت الحجة المقدمة في هذا الشأن هي أنه سيكون من الحكمة جعل كل دولة من الدول تحاول محاكمة مجرميها وفقا لنظامها القانوني. والتاريخ الحديث ليوغسلافيا السابقة يظهر أن هناك بعض المزايا في القيام بذلك، ولكنها ليست ذات شأن كبير.
في الحادي والثلاثين من مارس السابق، تم إخطار مجلس الأمن الدولي، أن الأمم المتحدة كان لديها أسماء لواحد وخمسين مسؤولا سودانيا وضابط جيش وزعماء قبائل، تثور شكوك حول احتمال تورطهم في ارتكاب جرائم حرب في دارفور.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت قد جادلت لمدة شهر كامل، حول ضرورة تحويل هؤلاء المسؤولين إلى المحكمة - وهي المرة الأولى التي تتم فيها إحالة رسمية إليها - إلا أنها اختارت في النهاية ألا تقوم باستخدام حق الفيتو. وقد تم النظر إلى ذلك على أنه يمثل انتصارا كبيرا للاتحاد الأوروبي في صدامه الأيديولوجي مع الولايات المتحدة، بشأن فكرة خلق المزيد من مؤسسات الأمم المتحدة. وتساءل المراسلون الدبلوماسيون، عما إذا كان ذلك التراجع الأميركي يعتبر مؤشرا على نية الولايات المتحدة اتباع نهج أكثر براجماتية، عقب انتهاء انتخابات الرئاسة، واختيار بوش لفترة ولاية ثانية.
وكانت الموظفة الرسمية الأميركية القائمة بأعمال مندوب الولايات المتحدة لدى المنظمة الدولية، قد ألقت كلمة أمام مجلس الأمن الدولي قالت فيها: "لقد قررنا ألا نقوم بمعارضة القرار بسبب حاجة المجتمع الدولي للعمل بشكل وثيق، من أجل إنهاء المناخ السائد في دارفور، والذي يتخيل فيه كل شخص أنه يستطيع أن يفعل ما يشاء دون أن يتعرض للعقاب. إننا لم نتخلّ - بل الحقيقة أننا حافظنا- على معارضتنا القوية، وطويلة الأمد، لمحكمة العدل الدولية."
وفي الحقيقة أن تلك المسؤولة كانت في وضع صعب، خصوصا إذا ما عرفنا أن الولايات المتحدة كانت الدولة الوحيدة التي وصفت ما يحدث في دارفور بأنه يمثل أعمال إبادة.
ويذكر في هذا السياق أن مندوب الولايات المتحدة لدى المنظمة الدولية ال