الخيل والليل والبيداء.. الخيل عفرت التراب، ونثرت الغبار، وصارت ترفس، وتهرس، وتغرس الحوافر، منحطة محنطة، لا تروم إلا إلى الخلف، جامحة نحو الشذوذ خارج حدود المنطق، تبدي انبهاراً بماضٍ قد تولى، واندثر، لكنها تصرّ على القبض بتلابيب ما قد توارى، وأصبح أشبه بالكسوف.. صواريخ العالم تعبر القارات، وخيولنا، لا زالت مهووسة، بجنون، سيف عنترة الدامي، قاتل الألف نفس في الضربة القاضية. وليلنا لا يزال داكنا، ينشر لحافه، على جسد عبلة سائرا، ومخاتلا، ومقاتلا، الأهل والجيران، كما لا يصحو، عن زلزلة الهمس الشعري، وجلجلة البوح، الدافئ. ليلنا، ليل، لا تلونه إلا أجنحة السواد الداكن، وتحت سفعاته المرتجعة، نضع رؤوسنا ونقول بجرأة المنتحرين، إنا، أمة الدم الصافي المنقى، وغيرنا هراء، لذلك، اخترنا الليل وظلامه، المهيب الرهيب، وتركنا الشمس تشرق بعيدا جهة الآخر، وسرنا نخضّ أواني الفراغ، ونعجن الهواء، ونطحن التراب، ونتشبث حتى آخر رمق، بمقولة "لنا الصدر دون العالمين أو القبر"، وحتى أبلينا الرأس، بانتهاكه، وضربه بنواميس البلاء والافتراء، والخواء، والشعارات الجوفاء، حتى بدا وكأنه عربة فارغة تتكئ على عجلات مهترئة، تحفر الأرض بجنون مفتونة بضجيجها.
أصبح الجديد بدعة، والتداخل مع الآخر، خدعة، والحوار نزعة شيطانية، تؤدي إلى النار. أصبح التفكير، لمجرد التفكير فقط في فتح نوافذ الأوطان، لدخول الهواء الطلق، مسألة تثير الفزع لدى البعض، بل هي، مثار رعب، بحجة أن الأوطان حرمة، كما هي حرمة النساء وحرمة البيوت. هذا التدحرج إلى الوراء، والدوران حول النفس، أصاب بعض العقول بالدوار، فاستشاط بهم الاستفراغ حتى لامسوا حدود النوم على فراش، الأسى والفجيعة، والندم واللطم، ونعي ما فات وما مضى، مما استدعى الاحتكام إلى السيف، ثأرا، واسترجاعا لحقوق وهمية ضائعة، مسروقة.. وفي غيبة العقل، وضحالة الفكرة، وضآلة، الخبرة في التعاطي، مع عالم، أطلق العنان، لنسقه الثقافي، بحيث تجاوز حدود ما يصبو إليه الإغلاقيون.. هذه الغيبوبة، منعت تسرب المياه النقية، وحجبت الضوء، وحجمت الخطوات، بل وسربلتها بأغلال التزمّت، والزيف، والحيف. صار المكان مجرد، مساحة ضيقة، حشرت في زواياها قطط متوحشة، تروم الخروج لكنها لا تقدر، تحاول أن تفك عقال الفكرة لكنها لا تستطيع، لماذا؟ لأن هناك خوفاً داخلياً ومقاومة في اللاشعور، لا تدع فرصة للعقل بأن يطلق رصاصة الرحمة، على ما تبقى من شظايا سرطانية تمكنت من الجسد، وتحكمت في الرأس.
غيبوبة العقل، لدى الكثير من الناس هي محاولة أخيرة، للحفاظ على ما تبقى في اللاشعور الجمعي، من انتصارات وهمية، وغزوات من صنع الخيال الشعري العربي، ونزوات توسعت وتفشت، صارت كالنار في الهشيم، تفتك بالحِلم، والحُلم فلا تبقي ولا تذر، إلا ما ندر من صحوة آنية، ثم يعود المرء منهم إلى ظنه وفنه وقديم حزنه. والفاجعة أن الثقافة العربية، وحتى رواد من الحداثيين يصنعون أبطالهم من وهم القديم لأنهم لا زالوا يحملون في الداخل بذور تخلف، في ظاهره بريق، وفي باطنه حريق، وما بين البين تيه، وهبوط نحو المجهول، وانسياق باتجاه اللامعرفة.. المعرفة، هذا التابو الذي لم نعد نقترب منه، نتحدث عن الحرية، ولا ندنو من المعرفة، وهي الضالة، والمآل.. نحن لا نعرف أننا لا نعرف، ولا نعرف أننا في المعرفة، نفك رموز الحقيقة، ولا نعرف أن الحقيقة المطلقة قد اختطفها البعض، واعتقد أنه تماهى واليقين وصار قاب قوسين، من عرش الله، ليسدي ويهدي، المغفرة والعقاب للآخر، هو صاحب الحق في بعث الناس أو إفنائهم، وهو المخول في تحقيق أحلام البشرية في الجنة، لمجرد أنه يقرأ الفنجان، أو يستطلع الكف، فإنه قدم الهبة الإلهية لمخلوقات المساء.
معضلة الجهل بالمعرفة، بؤس ثقافي مريع ومفزع، لأنه أمر يستدعي البحث عن ذات غائبة، والنبش في قبور الأموات، وتقصي حقيقة السلف، والبرهنة أن ما يحدث مجرد، من جديد ، مضاد لحقيقة الأشياء، ومخالف لنسق، تقادمت عليه أجيال، واعتنقت أسسه المعرفية. إذاً نحن أمام خيال خصب، وثري يعود بالعقل إلى بداية الجمع والالتقاط وكهوف الحجر، وسقوف السعف. نحن أمام فكرة حجرة، تتكسر ولا تتحضر، تسقط ولا تحط، نحن أمام ثقافة لا معرفية، عارية، مجردة مسكونة بالثبات والحنين إلى معرفة السابق دون اللاحق. مما استدعى الغطرسة، والتوحش، والانشقاق، واختيار البؤر المظلمة، والانكباب في الزوايا المعتمة، لعل وعسى، تحفظ شيئا مما تعرى، وانكشف من انكسار وعجز.
حرب المعرفة الجديدة مع الظلام حرب طويلة الأمد، هي بالأحرى ثقافة إحالة الجذور البالية، إلى رصيف التقاعد، وإقصائها إن أمكن حتى لا تبدو نافرة، في صدمة الحرقة القادمة.. حرب المعرفة الجديدة مع العتمة، هي تسليط الضوء على مواطن الزلل، والخلل في ثقافة، اعتقدت أنها الأجدر في قيادة العالم، تحت فانوس العطاءات الوهمية.. لا حوار، هكذا ينطق قاضي محكمة الجزاء، وهكذا يقول من تآزر وتحزم برباط الخيل والليل والبيداء، وهكذا يفصح عن معلقة ح