مشهد مهيب أخذ في التكون منذ أن بدأ بابا الفاتيكان الراحل يوحنا بولس الثاني يحتضر في أول أيام الشهر الجاري، واكتمل مع تشييعه في الثامن منه. مشهد يدفع إلى تأمل مغزاه فيما وراء الدور الذي اضطلع به هذا البابا عبر نحو ربع قرن. فما كان لهذا الدور أن يعطيه المكانة التي لم يبلغها رجل دين مسيحي غيره في هذا العصر إلا لأنه ارتبط بتحول تاريخي حققه في مسار الكنيسة الكاثوليكية وموقعها إزاء قضية الحرية. فقد أحدث نقلة أكثر من نوعية أصبحت الكنيسة الكاثوليكية بموجبها في موقع الصدارة تجاه مسألة الحرية، بعد أن شغلت البروتستانتية هذا الموقع منذ بزوغ شمس الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر. وهذا هو البعد الأكثر عمقاً على الإطلاق في مسيرة البابا الراحل، فالمكانة التي رأينا مظهرها الأخير المهيب في طقوس توديعه وتشييعه، لم يصنعها فقط دور مجيد في مواجهة قلعة الشيوعية والمساهمة في تقويضها. فقد اقترن هذا الدور بتغيير ثقافي وفلسفي جوهري أسدل الستار نهائياً على تاريخ الكنيسة الكاثوليكية المديد في مقاومة قيمة الحرية والوقوف سداً منيعاً منع انتشارها في أوروبا طوال العصور الوسطى. ولذلك فإذا أردنا تلخيص ما فعله البابا الراحل في عبارة واحدة لقلنا إنه غير وجه الكنيسة الكاثوليكية وأعطى الفاتيكان وجهاً جديداً لم يألفه من قبل.
هذا التحول التاريخي بدأه البابا الراحل منذ أن جلس على "الكرسي الرسولي" حاملاً معه إيماناً راسخاً بالحرية الدينية والزمنية على حد سواء، فكان هذا الإيمان هو دليله إلى دور تاريخي حقاً اضطلع به في مواجهة الشيوعية والمساهمة الفاعلة في تقويض معسكرها الذي كان مسيطراً على نحو نصف العالم وقت وصوله إلى الحاضرة الفاتيكانية.
هذا الدور المشهود سجله له معظم المعزين، بدءاً من الرئيس الأميركي جورج بوش الذي قال عنه إن "العالم فقد بطلاً مدافعاً عن حرية الإنسان"، ووصولاً إلى المواطن البولندي البسيط الذي تحدث وسط فيض من الدموع عن فضل البابا في الحرية التي يعيشها هو الآن في بولندا، وقال إنه يدين له بهذه الحرية.
لقد أمد البابا الراحل معارضي الاستبداد السياسي بطاقة روحية هائلة كان لها أثر بالغ في إضعاف المعسكر الاشتراكي وهزيمته. وهو لم يتخذ ذلك الموقف انتصاراً للولايات المتحدة والغرب، وإنما لإيمانه العميق بحرية الإنسان منذ شبابه الباكر. وقد رسخ هذا الإيمان في أعماقه منذ مطلع أربعينيات القرن الماضي خلال الحرب العالمية الثانية عندما وقع وطنه فريسة احتلال نازي لا يتسامح ولا يرحم ولا يبقي على حرية أو حق إنساني. فكان من بين ما اجتاحه هذا الاحتلال التعليم الديني، الذي انتظم كارول فويتبلا (وهم اسم البابا الراحل قبل توليه البابوية) في سلكه، فاضطر إلى إكمال درس اللاهوت سراً بعد حملة ضد التعليم الديني اعتقل خلالها عدد من أصدقائه.
فهو، إذن، حمل الإيمان والحرية معه إلى "الكرسي الرسولي" بخلاف ما قاله عنه يوم رحيله أحد معاوني الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان. فقد زعم إدوارد لاوني أن إدارة ريغان نجحت في استمالة البابا الراحل وكسبته حليفاً من أجل إسقاط الشيوعية.
وهذا افتراء على التاريخ، لأن الدور الذي لعبه البابا في إسقاط "المنجل والمطرقة" كان بدافع من إيمان عميق بالحرية جعله كارهاً للديكتاتوريات جميعها، فما بالنا بديكتاتورية ملحدة حرمت الإنسان من حريته السياسية والدينية في آن معاً.
ولا دليل جازماً على ذلك أكثر من أن موسكو الماركسية شعرت بحجم الخطر الناجم عن جلوسه على "الكرسي الرسولي"، فدعمت محاولة لاغتياله في عام 1981 قبل دخول ريغان البيت الأبيض في 20 يناير 1983. كانت إدارة جيمي كارتر في حال وفاق مع موسكو عندما كان البابا الراحل قد شرع في حملته من أجل الحرية في العالم عموماً وفي دول المعسكر الاشتراكي خصوصاً، وفي موطن رأسه بولندا بصفة أخص. فكانت رسالته الأولى المشهورة حتى اليوم إلى مواطنيه هي: "لا تخافوا.. ولا خلاص لكم إلا بالحرية". كانت هذه الرسالة هي المسمار الأول الذي دقه في جدار برلين، ولذلك لا يصح أن يأتي اليوم أحد ممن لم يكن لهم ذكر حينئذ فيشوه دوراً عظيماً ويصوره كما لو كان جزءاً من السياسة الأميركية. كان البابا الراحل مدافعاً عن الحرية بشكل مستقيم ومن دون انتفاء، وكان مخلصاً في سعيه إلى الحرية عندما ساندت واشنطن انقلابات عسكرية وديكتاتوريات شمولية.
وهو، بدوره هذا، أعاد صوغ المعادلة التاريخية بين الكنائس المسيحية، بل ربما يجوز القول إنه أحدث تحولاً نوعياً فيها.
فالكنيسة الكاثوليكية تاريخياً، هي التي وقفت ضد حرية العقيدة والضمير والحق في استخدام العقل وفي الاختلاف. ومارست سلطة بلا حدود على البشر في أوروبا أمراء كانوا أو بسطاء. وتلاعبت بالممالك والاقطاعيات الأوروبية وأمرائها ليظل البابا طول الوقت فوقهم جميعاً. طغى نفوذها على الحكام في الغرب، بخلاف ما كان عليه الحال في الشرق حيث استقرت الأوضاع لأصحاب السلطان الذين استخدموا علماء الدين أداة من أدو