إن أكثر من نصف تعداد سكان العالم يعيشون في الصين ومنطقة الشرق الأوسط، وكلما يمضي الوقت كلما تزايدت أعداد أولئك الذين يكنون العداء لواشنطن بسبب سياساتها الخارجية. وفي الكتاب الذي نعرض له اليوم بعنوان "ما بعد زمن البراءة: إعادة بناء الثقة بين أميركا والعالم"، يحاول الكاتب كيشور محبوباني التصدي لهذه المعضلة بعد أن أمضى أعواماً عديدة في الولايات المتحدة الأميركية وهو يعمل كسفير لسنغافورة لدى منظمة الأمم المتحدة. على أن محبوباني ينطلق في تحليله من منصة حبه الجارف أو عشقه إن جاز القول، للتجربة الأميركية حيث أفاض في مدح القيم والمبادئ الأميركية إلى درجة أنه وصف الولايات المتحدة بأنها "أفضل مجتمع بشري على مر التاريخ". وراح في معظم أجزاء الكتاب يشيد بالسخاء الأميركي بعد أن اعتبر أنها استمرت تمثل شعاع الأمل والازدهار للملايين من المواطنين في أنحاء العالم الأخرى. ويمضي ليذكرنا بأن الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة التي لم تبحث لنفسها عن إمبراطورية تتربع عليها أو تعمد إلى استغلال الشعوب الأخرى لأهداف اقتصادية، بل على العكس من ذلك هي التي أعادت بناء أعدائها السابقين مثل ألمانيا واليابان، وربما فعلت ذلك مع العراق. وكتب يقول:"إن أميركا مجتمع إنساني بكل المقاييس ظل يخدم الإنسانية جمعاء بكل ما توفر لديه من مبادئ وقيم عظيمة. وهي مهمة تاريخية اضطلعت بها بعد أن تمكنت من التحرر والهروب من الآثار المدمرة للتصنيفات الطبقية التي ما زالت سائدة في باقي أنحاء العالم".
أما الأهم من ذلك فإن النفوذ الأميركي تمكن من التمدد إلى أقصى بقاع العالم من أفقر دولة إلى أغناها. وكنتيجة لذلك هناك إحباط يسود جميع أنحاء العالم تجاه تلك القوة "التي تسيطر عليهم ولا يمكنهم بأي حال من الأحوال ممارسة السيطرة عليها". لذا فإن محبوباني يؤمن بأن المهم لأميركا هو أن تستخدم قوتها العسكرية بصورة تنطوي على الحكمة والروية حتى لا ينظر العالم بتشكك إلى هذه القوة "وكأنها قفاز حريري يخفي وراءه قبضة حديدية". ويعود الكاتب ليذكرنا بأن "التجارة العالمية استمرت تشهد النمو والتقدم لأسباب تتعلق بالتكنولوجيا والأسواق المفتوحة -وهي الأيديولوجيا التي ساعد على نشرها النفوذ الأميركي- بالإضافة إلى ما أصبح يشهده العالم من استقرار سياسي واستصدار لقوانين التجارة العالمية". وهو يشير إلى أن أهم هذه العوامل التي أدت إلى الازدهار التجاري تمثلت في انتشار القوات العسكرية الأميركية في معظم أنحاء العالم. وهي القوة التي ساعدت على إبقاء المسارات البحرية والجوية العالمية مفتوحة وآمنة على مدار الساعة. وإن أية قوة أخرى تحاول إحداث الفوضى والاضطرابات في هذه المسارات بات يتعين عليها أولاً الدخول في مواجهة مع أميركا. وطالما أنه لا توجد دولة بمقدورها الدخول في هذه المواجهة فقد استمرت التجارة العالمية إلى ازدهار. ويزعم محبوباني أن العالم نتيجة لذلك ظل يحقق الفوائد المباشرة من انتشار الوجود الأميركي الذي يكلف دافع الضريبة أكثر من 400 مليار دولار سنوياً بينما لا تساهم العديد من الدول الأخرى ولو بسنتٍ واحد من هذا المبلغ.
ثم يشير المؤلف إلى أن أميركا وبمجرد انتهاء الحرب الباردة وقعت في خطأ لا يغتفر عندما بدأت تتصرف وكأنها دولة عادية نأت بنفسها عن الأحداث العالمية وبدأت تتجاهل الابتلاءات التي حلت بالدول الأخرى غير آبهة بما يحدث للآخرين، وبخاصة لما جري لأكبر تعداد سكاني عالمي في الصين والعالم الإسلامي. وهو يعتبر أن المضي قدماً في خلق فجوة بين أميركا ودول العالم الأخرى من شأنه أن يشكل خطأ استراتيجياً مدمراً لأميركا وينطوي على خسائر هائلة لدول العالم الأخرى، إلا أن الوقت ما زال مبكراً للعمل على إصلاح هذا الخطأ. ويمضي محبوباني ليقول إن أميركا ليست ولا يجب أن تكون مجرد قوة عظمى عادية إذ يتعين عليها حمل لواء التنوير وأن تدرك مدى أهمية الاستقرار العالمي. وأن النجاح الاقتصادي للدول الأخرى ينعكس بالضرورة على استقرار وازدهار أميركا داخلياً. وإذا ما استمر العالم يعاني بسبب السياسات الأميركية الخاطئة كما حدث في السابق فإن الولايات المتحدة ستعاني بنفس القدر.
بيد أن محبوباني لا يعزو ذلك التراجع الكبير في المكانة الأميركية، إلى مجرد رد فعل على سياسات الرئيس بوش وأمثاله من المحافظين، وإنما إلى تحول تدريجي في المفاهيم الدولية تجاه أميركا. وهو يدعو إلى فكرة أن تتوقف أميركا فوراً عن مراعاة مصالحها قصيرة المدى والاتجاه نحو تطوير رؤية عالمية شاملة تتبنى تحقيق الفوائد للمجتمع العالمي بأكمله، مؤكداً أن كل ما هو جيد لجميع أنحاء العالم هو جيد بالضرورة للولايات المتحدة الأميركية. ثم يشير بوضوح إلى أن حلم الجمهوريين الجدد في إرساء إمبراطورية أميركية لا يعدو كونه مجرد وهم كبير اعتمد على فهم غير واقعي للحقائق الأميركية والعالمية على حد سواء. وكتب يقول: "بكل ما لديها من قوة عسكرية في جميع أنحاء العالم فإن أميركا تبدو غير قادرة على إخ