ذات مرة قال الفيلسوف البريطاني الشهير "برتراند راسل" إنه لن يقدم في أي وقت على التضحية بنفسه من أجل فكرة، لأنه قد يتضح فيما بعد أن هذه الفكرة قد تكون خاطئة.
وفي الحقيقة أنه قد تم التخلي عن الكثير من الأفكار، التي كانت تبدو جيدة في الظاهر، وذلك على امتداد رحلة البشرية الطويلة نحو التقدم، دون أن يؤثر ذلك على العالم، بل إن الحقيقة هي أن هذا العالم قد أصبح أفضل، بعد التخلي عن تلك الأفكار. والأفكار التي تم وضعها على الرف تشمل الشيوعية والقومية والشوفينية الذكورية (التعصب للذكور) و.. الوحدة العربية.
ولا تمثل هذه الأفكار سوى جزء من مجموعة أكبر من الأفكار، التي كانت تبدو رائعة في الظاهر، ولكم ثبت فيما بعد أنها غير جديرة بما يبذل فيها من جهود ومساعٍ، وذلك بعد سنوات طويلة من الإحباطات والخيبات.
والوقت الحالي في رأيي، هو الوقت المناسب لتنظيف تلك البقايا المتخلفة من الأفكار البالية، التي لا زالت موجودة في منطقة الشرق الأوسط الكبير منذ القرن الماضي، توطئة لإفساح المجال للأفكار التي تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين.
من ضمن تلك الأفكار:
الفكرة التي عفا عليها الزمن، التي كانت تؤمن بها إسرائيل، وهي أنها قادرة على التحكم في ملايين الفلسطينيين، والسيطرة عليهم من خلال القوة المجردة، وسرقة أراضيهم إلى الأبد، وإذلال رجالهم، ونسائهم، وأطفالهم، وطردهم من بيوت أجدادهم، وحبسهم في كانتونات محاطة بالجنود والمستوطنين اليهود.
الفكرة التي عفا عليها الزمن أيضا، والتي تتبناها الحركات الفلسطينية المسلحة، والتي توجد في معظمها في أوساط المتطرفين، والقوميين العرب خارج فلسطين، وفحواها أنهم سيكونون قادرين ذات يوم على إلقاء 5.5 مليون إسرائيلي في البحر، وعلى إعادة قرابة 4 ملايين لاجئ فلسطيني منفي من لبنان وسوريا والأردن وأماكن أخرى، إلى فلسطين.
أيضا فات أوان عقيدة البعث السوري العتيقة، التي تؤمن بأن الطريقة الوحيدة للتعامل مع المعارضة في الداخل وفي لبنان، هي الاغتيالات، والسجن، والخطف.. والتي لازالت تتعلق بالرأي القائل إن لبنان سيظل محمية سورية إلى الأبد. لقد لاحت أنوار فجر جديد في المنطقة بالفعل، وسوريا قد تجد نفسها في مأزق، إذا لم تتمكن من رؤية أنوار ذلك الفجر.
من ضمن الأفكار التي حان أوان وضعها على الرف، تلك الفكرة أو الأمل الغريب الذي يتطلع ضباط الجيش السابقين في بعض الدول العربية لتحقيقه، وهو حلول أبنائهم بعدهم في سدة السلطة، تماما مثلما هو الحال في الأنظمة الملكية، كما لو أنهم قد نسوا أن مجيئهم إلى السلطة قد تم، بعد انقلباهم على الأنظمة الملكية التي كانت قائمة في بلادهم. وفي مصر فإن حركة "كفاية" تبدو وكأنها قد نجحت في تحقيق ذلك.. أي في وضع مثل هذه الفكرة على الرف.
إذا ما كانت هناك فكرة أخرى قد مضى أوانها، وفات زمانها، فهي فكرة أن أبناء الأسر الحاكمة أو أبناء الرؤساء في أي مكان في العالم، يمكن أن يتصرفوا مثل الباشوات، في عالم شفاف تسوده التلفزة الفضائية وشبكة الإنترنت. والجانب الأسوأ بالنسبة لتلك التصرفات المحرجة، ليس هو أنها لا زالت تحدث في العالم العربي بالذات، ولكن أن كلا من الأبناء والأباء في ذلك العالم، يعتقدون أن التصرف بمثل هذه الطريقة يمثل حقا مشروعا لهم.
ومن الأفكار التي حان الآن أوان إحالتها على التقاعد فكرة التمرد العراقي. فمنذ فترة كان الكثيرون من العرب والمسلمين يقومون بمساندة ذلك التمرد، ويعتبرونه انتفاضة ضد الاحتلال العسكري الأجنبي. ولكن ذلك التمرد انحدر منذ فترة طويلة، إلى مستوى أعمال القرصنة والخطف والقتل العشوائي، للآلاف من المدنيين العراقيين الأبرياء.
والعراق بأكمله في حاجة إلى إعادة نظر من قبل القوميين العرب، الذين أصبحوا هم أنفسهم جنساً معرضا للانقراض.
ليس هناك من شك في أن الاحتلال الأميركي قد ارتكب العديد من الجرائم ، وأن صور سجن أبوغريب، الذي كان يتم فيه تعذيب العراقيين وانتهاك كرامتهم، لازالت حيه في ذاكرة الجميع. ولكن التمرد في معرض رده على جرائم الاحتلال تجاوز جميع الحدود. فالمذابح الجماعية التي ارتكبها المفجرون الانتحاريون ضد المصلين الشيعة، وضد المدنيين والعراقيين السنة الباحثين عن الوظائف، أو المتجهين إلى مدارسهم، أو المصلين في مساجدهم أو كنائسهم، تعتبر كلها من الأعمال الدالة على الإفلاس الأخلاقي، والجنون المطبق.
هذا التمرد يجب إطفاء نيرانه، كما أن الدول المجاورة التي تقوم بتشجيعه وتغذيته وتسليحه يجب عزلها ووضعها تحت طائلة نظام العقوبات الدولية.
ويجب أن نعترف الآن وبعد مضي عامين على الغزو الأميركي، أن هناك قرابة 27 مليون عراقي، يحاولون اليوم استعادة مكانة العراق كمنارة من منارات الحضارة العربية. ومن الأمور التي تزداد وضوحا باستمرار، أن الأكراد في العراق، وكذلك أكبر مجموعة سكانية فيه - الشيعة- قد توصلوا إلى نوع من الهياكل الحكومية الفيدرالية.
لقد كان التقدم في هذا المجال بطيئا، ولكنه كان في نفس ا