الإنفلونزا تقتل، وأحيانا ما تقتل الملايين. هذه الحقيقة الأساسية، ألقت بظلالها القاتمة على رؤوس الكثير من العاملين في المجال الطبي، بعد انتشار خبر توزيع عينة اختبار معملية بالخطأ، على أكثر من أربعة آلاف معمل في ثماني عشرة دولة. هذه العينات والتي تم توزيعها منذ شهر أكتوبر وحتى شهر فبراير الماضيين، احتوت على نوع من أنواع فيروسات الإنفلونزا هو (H2N2) والمسؤول عن وباء الإنفلونزا الآسيوية، التي تسببت عام 1957 في مقتل أربعة ملايين شخص. وتكمن المشكلة في أن هذا الفيروس اختفى بحلول عام 1968، مما يجعل كل من ولد بعد هذا التاريخ فاقداً للمناعة ضده، وضحيةً سهلة الافتراس. وتبدأ القصة في السادس والعشرين من الشهر الماضي، عندما قام أحد المعامل بإشعار وكالة الصحة العامة في كندا، بالعثور على فيروس (H2N2) وسرعان ما أبلغت الوكالة الكندية مركز التحكم في الأمراض بالولايات المتحدة، وتم إصدار تعليمات للمعمل المعني بإجراء تحقيق شامل عن مصدر الفيروس. وبحلول اليوم الثامن من الشهر الجاري، توصل التحقيق الداخلي إلى أن مصدر الفيروس هو عينة اختبار، أرسلت للمعمل من قبل الكلية الأميركية لأطباء علم الأمراض (College of American Pathologists) .
وكان إرسال الكلية لهذه العينات، جزءاً مما يعرف باختبارات الجودة أو الكفاءة (Proficiency testing) وهي عملية يتم فيها إرسال عينات عمياء، أي بدون تشخيص، لاختبار قدرة المعمل وكفاءته في الوصول إلى التشخيص السليم. وما حدث في هذه الحالة، أن الشركة التي صنعت عينات الاختبار، وهي "ميريديان بيوسينس" (Meridian Bioscience inc) ولسبب غير واضح حتى الآن، قررت إرسال عينات من فيروس (H2N2) لاختبار قدرة المعامل على التعرف على الفيروس. وربما كانت وجهة نظر الشركة هي أن الفيروسات التي تتكاثر لأجيال متعاقبة في أطباق المعامل، تفقد شراستها وتقل قدرتها على إحداث العدوى لدى البشر. وهي وجهة النظر التي لا يتفق معها الكثيرون، عندما يتعلق الأمر بفيروس مثل فيروس (H2N2) وبالفعل تم إرسال الفيروس إلى أصقاع العالم وقاراته المختلفة، ففي أوروبا أرسل الفيروس إلى كل من بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وفي الأميركتين أرسل الفيروس إلى الولايات المتحدة وكندا والمكسيك وتشيلي والبرازيل وبرمودا، وفي آسيا أرسل الفيروس إلى هونج كونج واليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان، أما في الشرق لأوسط فأرسل الفيروس إلى إسرائيل ولبنان والمملكة العربية السعودية. هذا الانتشار الواسع لأماكن إرسال العينات، وإدراك ما حدث من قبل مسؤولي الصحة العامة، دفع مركز التحكم في الأمراض إلى الاتصال بالكلية الأميركية وبشركة "ميريديان بيوسينس"، وتوجيههما بضرورة الاتصال بأية معمل أرسل إليها الفيروس، وطلب تدمير العينة الاختبارية على الفور. وقام أيضا مسؤولو المركز بالاتصال المباشر بمسؤولي الصحة العامة في جميع الدول التي أرسل إليها الفيروس، لإخبارهم بحقيقة ما حدث وخطورة الموقف بالتحديد. كل هذا تم في إطار من السرية التامة، ودون نشر الخبر في وسائل الإعلام العامة، مخافة أن تنتهز الجماعات الإرهابية هذه الفرصة، لتضع يداها على سلاح بيولوجي شديد الفعالية.
رد الفعل هذه، وحالة القلق الشديدة التي انتابت المسؤولين والأطباء، سببهما تاريخ الإنفلونزا الدامي مع الجنس البشري. فهذا الفيروس اللعين تسبب عبر التاريخ في العديد من الأوبئة التي راح ضحيتها الملايين. فمثلا، تسبب وباء عام 1918، والمعروف بالإنفلونزا الأسبانية، في مقتل ما بين عشرين إلى أربعين مليون شخص، وهو عدد أكبر من إجمالي عدد ضحايا الحرب العالمية الأولى التي كانت تدور رحاها حينها. وهو ما جعل البعض يصنفون وباء الإنفلونزا الأسبانية على أنه أكبر قاتل، ضمن الأوبئة المرضية على الإطلاق، حتى مقارنة بالطاعون الشهير المعروف بالموت الأسود والذي اجتاح العالم في منتصف القرن الرابع عشر. ولإدراك مدى فداحة ذلك الوباء، يكفي أن نعلم أنه قتل من الأميركيين فقط، أكثر ممن قتلوا في جميع الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في القرن العشرين، بما في ذلك غزو العراق وحرب الخليج الأولى وحرب فيتنام وحرب كوريا والحربين العالميتين الأولى والثانية. وحتى الإنفلونزا الآسيوية موضوع القلق الطبي العالمي هذا الأسبوع، والتي تعتبر أوبئتها أقل وطأة بكثير من وباء الإنفلونزا الأسبانية، تسببت هي الأخرى في مقتل قرابة الأربعة ملايين شخص، حسب بعض التقديرات.
ومثل هذه الأوبئة المرعبة، هي بالضبط ما يخشى مسؤولو منظمة الصحة العالمية تكراره، إذا ما لم يتم التعامل مع العينات الحاملة للفيروس بقدر كاف من الحرص والحذر. ولا يوجد أمام المعامل التي تلقت مثل تلك العينات الكثير من الخيارات، ما عدا خيار تدمير الفيروس على الفور، وبطريقة صحيحة. ولذا قام مركز التحكم في الأمراض بتوجيه الكلية الأميركية لأطباء علم الأمراض، إلى إرسال تعليمات فورية ومفصلة لكل المعامل التي تلقت العينات، عن الطريقة الأكيدة والآمنة لل