هل تريد الولايات المتحدة بالفعل إنجاح المنظمة الدولية أو آلية المحكمة الجنائية الدولية؟ وهل تريد -حتى- مشاركة أوروبية فعالة عن طريق تدويل مساعدات التنمية الدولية، في السودان أو فلسطين أو غيرهما؟
هذا ما يكاد يطرأ على الذهن من خلال متابعة تطور أحداث السودان وعلاقتها بقرارات مجلس الأمن المتتالية خاصة تحت أرقام 1590-1593.
فالقرار الأول كان ينص على وصول قوات حفظ السلام الدولية إلى السودان وبموافقة سودانية، مثلما وافق على وجود عشرة آلاف جندي من "تحالف دولي" باسم الأمم المتحدة للإشراف على تنفيذ اتفاقيات نيفاشا الخاصة بجنوب السودان. ومع ذلك لم نسمع أي ضجيج داخلي أو خارجي حول هذا "الحضور الدولي" في المسألة السودانية. لكن هنا نحن أمام تصميم فرنسي على عرض حالة دارفور على مجلس الأمن لتحويل السودان إلى المحكمة الجنائية الدولية بعد اتهامه ضمناً و-علناً- بإهمال الوضع في دارفور وعدم وقف العدوان على الأهالي هناك، وإعطاء "الاتهام" صفة موضوعية بما يتضمنه من اتهام للحكومة وجبهات التمرد أو شخوصهم جميعاً في نفس الوقت. ولأن قرار المجلس وعمل المحكمة سيكونان في إطار مرجعية الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يؤكد "استعمال القوة ضد الدولة المعنية وبدون شروط موافقتها"؛ فإن السودان يصبح مهدداً بأشكال من العقوبات تتواصل من أشكال المقاطعة إلى استعمال القوات المسلحة بالفعل.
ويقف أمام هذا التهويل عدد من الاعتبارات التي تجعل المسكوت عنه أو ما خفي أهم مما يبرز على السطح، ذلك أنه في إطار السلوك القانوني للمحكمة لا يتوقع أن ينتهي عملها الذي يبدأ خلال عام من الآن قبل حوالى ثلاثة أعوام، وذلك في أفضل ظروف للمحكمة التي تعاني من عدم التمويل المناسب، وخاصة مع حرمانها من أي مساهمة من قبل الولايات المتحدة نفسها بسبب عدم موافقة الأخيرة على قانون هذه المحكمة. إذن فالقضية لا تتعلق بمدى قبول أو رفض محاكمة عدد من الأشخاص عاجلاً حسب ما توحي به "عصبية" التصريحات الصادرة من الخرطوم، بل تتعلق بمدى الرغبة في محاصرة الحكم في السودان، ومدى قدرته على الخروج من هذا المأزق إما بالمناورة في الخارج أو الداخل. والواقع الذي نشاهد عناصره الحية الآن، يشير إلى أن المسرح السوداني يندفع نحو مزيد من التدويل بعد أن كان يتحرك أفريقياً وداخلياً بشكل أفضل. فالاتحاد الأفريقي أو منظمة "الإيغاد"، لم تعد تذكر على هذه الساحة كثيراً مع ضعف ملحوظ في إمكانيات الاتحاد الأفريقي واعتماده على التمويل الأميركي لحركته، وقد أغرى ذلك الأميركيين لتفضيل معالجة القضية بأنفسهم ومع الحكومة السودانية مباشرة؛ بدلاً من اللجوء للوسيط الأفريقي في أديس أبابا أو الوسيط العربي في شرم الشيخ! وها هي زيارة "زوليك" النائب القوي لوزيرة الخارجية الأميركية تبعث برسائل جديدة حول المعالجات المتوقعة في الوقت القريب في علاقة مباشرة بين السودان والولايات المتحدة، لأن الأخيرة لن تكون سعيدة بتجيير النجاح في تحريك المسألة السودانية للأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية.
ولا شك أن زيارة المسؤول الأميركي للخرطوم في لحظة "الانفعالات السودانية" ستكون فرصة للأميركيين للوعد والوعيد الذي يؤكد انفرادهم بمعالجة الموقف. وقد يكون الاعتماد على بعض مواد تشكيل المحكمة الجنائية الدولية حول التحقيق المحلي عن طريق القضاء الوطني منفذاً لأي من أطراف هذا التدويل "الفج".
ثمة تطورات أخرى تبعث برسائل مختلفة أيضاً، تراوح بين أن تكون خارجية أو ذات أثر إيجابي على الموقف الداخلي. فثمة اتصال قوي من قبل الخرطوم مع تشاد، لتجنب الآثار السلبية لمحاولة السودان تحريك "جاليته" الكبيرة في "نجامينا" أو على حدودها، بثقلها التجاري القوي، وثمة زيارة "جون قرنق" للصين وما تحمله من إشارات حول نصيبها في بترول الجنوب أو دورها في التنمية، لموازنة "مؤتمر المانحين" الذي يبدو في نظر جون قرنق والخرطوم على السواء أنه بصدد إدارة الاقتصاد السوداني بالطريقة التي تريح المصالح الأوروبية وحدها. ولابد أن البعض لاحظ أن "المؤتمر" الذي تراوحت مشروعاته بين 3-4 مليارات دولار، قدر أن احتياجات التنمية الشاملة الفعلية تحتاج إلى حوالى ثمانية مليارات، يتحملها السودان أو بالأحرى البترول السوداني الذي بات عليه أن يمول مشروعات الاستثمار الأوروبية! (بما يذكرنا بمليارات البترول العربية في السبعينيات ودخول "الطرف الثالث الأوروبي" على الخط العربي- الأفريقي في تلك الفترة)! ومعنى ذلك أن التدويل السياسي والقانوني والجنائي للسودان يمتد إلى التدويل الاقتصادي أيضاً، وهو الهدف في النهاية.
أما عن التطورات الداخلية الملفتة، فإنه يمكن القول إن الحكومة السودانية لم تحسن استثمارها رغم ما تقدمه هذه التطورات من افتراضات في هذا المجال. فلم تنجح الحكومة في تقديم صيغة لـ"المتمردين" تستوعبهم ولو بقدر إلى جانبها بعدما بدأت التصريحات الدولية تدين أكثر من طرف أو فصيل بسبب مشاركتهم في أعمال العنف ضد الأهالي.