في ندوة عقدت في العاصمة الكندية -أوتاوا- وكان محورها الأساسي حول برامج التنمية وإعادة التأهيل والإعمار الدولية في سودان ما بعد الحرب، تساءل أحد الحاضرين - ببراءة شديدة- وقد لاحظ أن الحديث عن التنمية وإعمار ما دمرته الحرب يدور حول جنوب السودان، إن كان التدمير والخراب الذي أحدثته الحرب قاصراً على جنوب البلد وحده أم أن الحرب المجنونة قد أصاب دمارها وخرابها السودان كله وأن آثارها الشنيعة قد امتدت وشملت كل بقعة في السودان من أقصى جنوبه إلى شماله إلى شرقه وغربه؟!
كانت تلك الندوة قد عقدت في أوتاوا قبل انعقاد مؤتمر المانحين الأخير في العاصمة النرويجية أوسلو، ذلك المؤتمر الذي تحددت فيه الالتزامات الدولية تجاه التنمية والإعمار في السودان وفُصلت فيه الشروط التي على أساسها سيقوم "المانحون" بالوفاء بالتزاماتهم تجاه السودان لتمويل المشروعات الإنمائية في السودان.. لقد بادرت النرويج وباهتمام ملحوظ بقيادة مجموعة المانحين الدوليين، ولقد حرصت الأمم المتحدة ممثلة في كوفي أنان أمينها العام على أن يكون لها دور رئيسي في العملية الدولية للسودان، ولعل الأمانة العامة للأمم المتحدة تريد بذلك أن تثبت دعوتها التي ألح عليها الأمين العام كثيراً في السنوات الأخيرة بأن يكون الدور الأساسي للمنظمة الدولية في الإشراف والرقابة على تنفيذ برامج المعونات الدولية التي شابها الكثير من القصور وسوء الإدارة والتبديد بل والسرقات التي فاحت روائحها الكريهة والتي مارسها بعض حكام ومسؤولي الدول المتلقية للعون والمعونات الدولية، وفي أحيان كثيرة بعلم ومشاركة بعض موظفي الدول المانحة نفسها.
لذلك لم يبدُ غريباً أن الروح التي سادت مؤتمر المانحين الأخير في أوسلو والمناقشات التي دارت فيه كانت تتوجه بشكل مباشر نحو ضرورة ولزوم الشفافية والمحاسبة والرقابة الدولية والشعبية على التصرف في المنح والعون الذي سيقدمه المجتمع الدولي للسودان إذا صدق المانحون وعدهم. وهذا بلا شك أمر حسن ومطلوب ليس من قبل المانحين وشعوبهم وحدهم، بل ومطلوب أكثر من قبل الشعوب التي يفترض أن تكون المستفيد من العون الدولي والتي كثيراً ما رأته - ليس في السودان وحده- يتبدد بشكل مخجل.
إن المجتمع الدولي قد قام نحو السودان بما رآه واجباً عليه القيام به، نحو سودان السلام وفقاً لرؤيته وأولوياته التي وضع في مقدمتها إنهاء الحرب وبناء السلام. وصحيح أن ما أعلن عنه من التزامات مالية دولية لن تكفي احتياجات برامج التنمية والإعمار السودانية، فمشروع إعادة بناء البلد الكبير الذي دمرته الحرب وأوقفت عجلة التنمية والتقدم فيه لعقود طويلة من الزمان مشروع كبير أيضاً ولا يحتاج فقط إلى مليارات مضاعفة عما هو معلن الآن، ولكنه يحتاج أيضاً إلى جهد بشري وذهني تتوفر له إدارة فنية وإدارية تتميز بالأفق الواسع والعزيمة والإرادة الطموحة التي تضع مصالح الوطن والشعب العليا فوق كل مصلحة حزبية أو شخصية ضيقة والتي هي قادرة على تحمل أعباء الأمانة التي عرضت على السموات والأرض فأشفقن منها وأبين أن يحملنها.. والمجتمع الدولي قد يمنح المال ويوفر التمويل ويقوم على الرقابة ويشدد على الشفافية والمحاسبة، لكن هذه الإدارة التي نتحدث عنها يجب أن تنبع من السودان، وهذه الأمانة الصعبة يجب أن يتحملها السودانيون. وليس من قبيل المباهاة الوطنية القول إن السودان يزخر بأبناء وبنات من بنيه عُرفوا وفي كل المجالات الدولية بكفاءتهم وقدرتهم وساهموا بالعمل في كافة المنظمات الدولية بجدارة أكسبتهم احترام وثقة تلك المنظمات.
صحيح أن كثيراً وكثيراً جداً من الكفاءات الفنية والعلمية والإدارية السودانية قد أبعدتها عن أرض الوطن -قسراً- ظروف العقود الأخيرة، ولكن لم تبعد الإحساس بالتزامها نحو وطنها، وما يزال استعدادها للبذل والعطاء من أجل وطنها عالياً، والمطلوب الآن العمل الجاد لإعادة هؤلاء لأرض الوطن طوعاً وحباً في مناخ تتوفر فيه الحرية والديمقراطية والعدل، لأن الوطن لن يبنى وينهض إلا بجهد أبنائه وبناته.