وأخيراً ولدت الحكومة اللبنانية بتسوية دولية إقليمية لبنانية انطلقت من المملكة العربية السعودية عندما زارها السفير وليد المعلم موفداً من القيادة السورية. والمملكة لعبت دوراً بارزاً في تهدئة الأمور من خلال اتصالاتها مع مختلف القيادات اللبنانية. والمعروف أن زعيم المعارضة وليد جنبلاط كان قد زارها قبل الانسحاب السوري فأبلغ عن جديته، وتمنت القيادة السعودية عليه التعاطي الإيجابي انطلاقاً من حرصها على الاستقرار في لبنان وعلى وحدته الوطنية وأيضاً على استعادة العلاقة الجيدة مع سوريا. وبالفعل بعد وقت قصير من اللقاء بين جنبلاط وولي العهد السعودي الأمير عبدالله، أعلن الرئيس السوري بشار الأسد قرار الانسحاب من لبنان، فتجاوب جنبلاط معه وأبدى مواقف إيجابية وهو كان لا يزال في رحاب المملكة. ولا شك في أن علاقة مميزة تربط عائلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري بالعائلة السعودية الحاكمة وبالتالي كان العمل معها على الخط ذاته وكان تفهم من قبلها. فالمهم هو جلاء الحقيقة فيما خص اغتيال الرئيس الشهيد ورفاقه، وتشكيل حكومة، وإجراء الانتخابات النيابية في موعدها.
القيادة السعودية أجرت اتصالات مع دمشق وباريس والقاهرة وغيرها من العواصم المعنية والمتابعة. جنبلاط أوفد بعد شهر موفداً إلى الأمير عبدالله لمتابعة التطورات بعد مماطلة السلطات اللبنانية في تشكيل حكومة وسعيها إلى تأجيل الانتخابات رغم الإيجابيات التي قدمتها المعارضة. وأعلن عن زيارة للأمير عبدالله إلى باريس للقاء الرئيس شيراك وهو في طريقه إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي جورج بوش. الموفد الدولي تيري رود لارسن زار دمشق وحصل على قرار بإتمام الانسحاب السوري نهائياً ورسمياً قبل نهاية شهر أبريل. ونشطت حركة دولية وإقليمية في اتجاه سوريا وأطلقت سلسلة مواقف تطالب السلطة اللبنانية بإجراء الانتخابات في موعدها الأمر الذي يستلزم تشكيل حكومة في أسرع وقت ممكن.
وفي باريس كانت الأسبوع الماضي الولادة. ففيما كان الأمير عبدالله بن عبدالعزيز يلتقي شيراك، كان وليد جنبلاط يجري محادثات مع وزير الخارجية الفرنسية ميشال بارنييه وعدد من المسؤولين الفرنسيين الآخرين، ومع مسؤولي عدد من الدول الأوروبية في البرلمان الأوروبي، وفي الاتحاد الأوروبي، والأحزاب الاشتراكية الأوروبية. وكان سعد الحريري يواكب أيضاً الاتصالات السعودية – الفرنسية، واللبنانية – الفرنسية الدولية ويشارك في تقديم الأفكار والاقتراحات الممكن اعتمادها للخروج من المأزق، وكان الإثنان ( جنبلاط والحريري ) على اتصال بقادة المعارضة في بيروت.
هكذا وبين شيراك وعبدالله بن عبدالعزيز، وتيري رود لارسن، وسوريا والمعارضة اللبنانية، انطلقت فكرة تسمية نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة. وكانت المفاجأة، أن المعارضة هي التي أوصلت ميقاتي وأن فرزاً حصل داخل الموالاة بعد اعتذار الرئيس عمر كرامي. والمعروف عن ميقاتي علاقاته الوثيقة الشخصية والسياسية مع القيادة السورية. وإذا كان البعض اعتبر أن هذا يعني أن رئاسة الحكومة أو رئيس الحكومة لا يزال قريباً من سوريا أو محسوباً عليها فإن الغالبية تعتبر أنه ليس مطلوباً - رئيس حكومة - بعيداً عنها أو معادياً لها، بل يجب الاستفادة من علاقات ميقاتي وغيره لإعادة صوغ علاقات لبنانية سورية سليمة بعد التطورات الأليمة التي شهدها لبنان بسبب تدهور هذه العلاقات الناجم عن سوء استخدام شبكة المصالح اللبنانية السورية لها والانحراف بها بعيداً عن الأسس التي قامت عليها والأهداف التي كانت مرجوة منها.
في النهاية شكـّل نجيب ميقاتي الحكومة. وهذا أمر إيجابي. والمطلوب اليوم تنفيذ الالتزامات التي قطعها على نفسه وهي:
1- إقالة قادة الأجهزة الأمنية من قبل الحكومة قبل أن تجبر على ذلك بضغط من لجنة التحقيق الدولية، وفي ذلك اعتراف بخطأ وتقصير وعناد ومكابرة وخفة السلطة في التعاطي مع هذا الأمر في المرحلة السابقة ومسؤوليتها المباشرة عما جرى واعتراف أيضاً بأهمية لجنة التحقيق وأبعادها وصعوبة عرقلة عملها. وفي هذا الإطار ينبغي التأكيد على ضرورة تعيين بدائل عن قادة الأجهزة لا يكونون من المدرسة ذاتها ولا يعتمدون الأسلوب ذاته بل يوحون بالثقة.
2- تسهيل مهمة لجنة التحقيق الدولية عند تشـــكيلها والتعاون معها للوصول إلى الحقيقة.
3- إجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها الدستورية أي قبل التاسع والعشرين من شهر مايو المقبل كي لا تدخل البلاد الفراغ. وهذا يستوجب الاتفاق على قانون للانتخاب. وهنا بيت القصيد. هنا القضية المركزية الأساسية لأن قانون الانتخاب مصيري بالنسبة إلى كل القوى السياسية.
وهذا البند يضع لبنان مجدداً وبعد التسوية الدولية الإقليمية التي أنتجت الحكومة، أكثر من أي وقت مضى في وضع دقيق. فأي تأجيل للانتخابات كما يحاول البعض أن يفعل، وبسبب خوف السلطة والموالاة وبعض "حلفاء سوريا" من نتائجها نظراً للمد الشعبي الكبير الذي تحظى به المعارضة، وأي التفاف على هذا الأمر سيعرّض سوريا