انقضى حتى الآن خمسون عاماً على مؤتمر باندونغ الذي دعا إليه جمال عبدالناصر، وشو إن لاي، وسوكارنو، ونهرو، ويونو لعقد "مؤتمر تضامن شعوب آسيا وإفريقيا" وأعلنوا المبادئ الخمسة لإقامة نظام عالمي جديد تسوده الحرية للشعوب والمساواة بين الأمم والتعايش والتعاون بين الدول في ظل العدالة والسلام العالميين. وقد كان العالم يتحرك بين قطبين هما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي السابق وذلك حينما كان ثنائي القطبية. وقد تحول المؤتمر بعد ذلك إلى "حركة عدم الانحياز" (116 دولة). وكان لهذا المؤتمر والحركة الفضل في تحرير كثير من الدول والشعوب إذ نالت معظم الشعوب في إفريقيا وآسيا استقلالها وحريتها.
وإذا كان العالم لا ينحصر في الدائرة المركزية التي تشمل الحضارات الإسلامية والكونفوشيوسية والبوذية فإن الحوار العربي- اللاتيني المنتظر سيقود إلى تحركات كبرى تبطل انفراد القوة الكبرى المهيمنة على النظام العالمي والفارضة إصلاحات معيّنة والمعدِّلة لمذهبها العسكري ليضم مبدأ جديداً هو مبدأ الحرب الوقائية، والمحتلة لأفغانستان والعراق والمهددة لسورية ولبنان وإيران وكوريا الديمقراطية. سوى أن العالم متعدد الأقطاب يتطلب نشوء كتلة مناوئة للحرب ومنادية بالحرية للشعوب. وهذا يتطلب نشوء حركة عدم الانحياز مرة ثانية. فالعالم يحتاج إليها تحت أي مسمى تسمت به، وبخاصة أن الدول والشعوب النامية تحتاج إلى أن تعبر عن نفسها وعن حاجاتها إلى الحرية والسلام والأمن، وبخاصة أن من سمات وقتنا الحاضر عدم القبول باستمرار النظام أحادي القطبية، فمثل هذا النظام لابد له من الانهيار. وسينتهي لأن الاتحاد الأوروبي أو روسيا الاتحادية أو الصين أو الهند ستكون قوة عظمى، ليس لأننا نبغي ذلك وإنما لأن النظام الأحادي القطبية سينتهي وسيكون بديله تكتل الشعوب أو انتفاضة الدول النامية –الجنوب- ضد الدول الغنية –الشمال- التي تحدث عنها الرئيس الفرنسي شيراك.
لقد بنيت دول العالم وشعوبه على أساس القوميات. وما تزال نظرية القوميات التي نشأت في الغرب تؤسس الدول وتقودها إلى التحرر والاستقلال. فهذه النظرية تنبني على الأمة، ولا يوجد في التاريخ المعاصر جامعة تربط بين 22 دولة كالأمة العربية المؤلفة من أقطار عددها 22 دولة، والأمتين الصينية والكورية حتى الآن فهذه الأمم ابتليت بالاستعمار الذي جزأ الأمة العربية إلى 22 دولة لم تستطع التوحد حتى الآن وحارب الأمتين الصينية والكورية حتى لا تتوحدا. لقد أصبحت الأقطار العربية دولاً معترفاً بها، ثم إنها تكتلت جبهوياً ولم تستطع تلك المجالس المؤسسة أن توحد شعوبها وأن تنظم شؤونها في وحدات مستقرة ذات معالم واضحة.
يتطلب التحرر مقاومة وطنية ترعاها وتحميها حركة عدم الانحياز أو من يقوم مقامها، على أساس أن المقاومة الوطنية قومية فلا يتخطاها العدو أو المحتل بالرغم من الثغرات التي يمكن لهذا العدو أو المحتل أن ينفذ منها، وإنما دائماً تشكل تلك المقاومة جبهة وطنية متحدة لكي تستجيب للصيغة المعاصرة فلا تترك مجالاً أو منفذاً للعدو أو المحتل. فلقد استطاع ذلك العدو أو المحتل أن يجعل احتلاله العسكري اقتصادياً أو ثقافياً أو أي شيء آخر. فليس الاحتلال العسكري بقوة السلاح إلا شكلاً من أشكال الاستعمار، كما هي الحال في أفغانستان والعراق.
ويبدو أننا نعود إلى القرن التاسع عشر أو النصف الأول من القرن العشرين حينما كان الاحتلال العسكري هو قمة الاستعمار ورحم الله الرئيس الأميركي "وودرو ويلسون" حينما كتب في شهر كانون الأول 1915 يقول إن "الفتح والاستيلاء ليسا داخلين في برامج الحكومات الديمقراطية ولا يتفقان مع مذاهبها" فلا تزال الفعاليات السياسية نفسها في الاحتلال القديم أو المعاصر. فقد صرح الجنرال اللنبي يوم دخل القدس في 29/12/1917 بأن "غاية الاحتلال الإنجليزي هي تحرير فلسطين من النير التركي وإنشاء حكومة وطنية حرة فيها".