مقتل الشابة الفلسطينية يسرى العزامي في سيارة خطيبها على شاطئ غزة يوم 10 إبريل برصاص مسلحين منسوبين إلى حماس وبوازع "الردع الأخلاقي ومحاربة الفساد"، وضرب خطيبها وإسالة دمائه، هو جرس إنذار خطير وأكثر من أن يكون حادثة عابرة لا تستحق التوقف عندها. خطورة هذا الحادث تتجلى في كونه ليس حادثاً فردياً بالشكل الخالص للكلمة، بل تم التخطيط له من قبل جهة أو لجنة مهمتها "مكافحة الفساد الأخلاقي"، وتضمنت سيارة وعدة مسلحين وغير ذلك (كأنه عملية عسكرية!). معنى ذلك أنه قد يكون واحداً من حوادث عديدة لكنه وصل إلى الإعلام بسبب بشاعته وولوغه في الدم. على حماس أن توضح هذه النقطة وتقول للناس فيما إن كانت لديها أي لجان منوط بها "مراقبة أخلاق المجتمع"، وإن كان لديها أي شيء من هذا القبيل عليها أن تعلن حله مباشرة وبلا تردد. فسواء أكانت تلك اللجنة/ اللجان موجودة فعلاً أم أنها هلامية التشكل أو غير ذلك فإن الخطورة في كل ذلك تكمن في تعزيز المناخ الطالباني المتطرف في محافظته الذي قد يتطور ويعتاش على مناخ إقليمي أوسع ومواتٍ يتلاقى فيه التطرف البوشي مع الطالباني على برنامج واحد وهو تأخير هذه المجتمعات وسد آفاق المستقبل أمامها.
ليس من حق "المقاومة"، أي مقاومة، أن تبتز المجتمع الذي تدافع عنه ضد عدو خارجي بفرض رؤية اجتماعية محددة عليه باستخدام القوة والتهديد. لا يجوز استخدام "الرأسمال المقاومي" الذي يحظى بتأييد وإعجاب شرائح واسعة من المجتمع واستخدامه لترسيخ الرؤية الاجتماعية الأيديولوجية (أو الأخلاقية الدينية والثقافية) التي تتبناها أية حركة مقاومة. خاصة عندما يتم ذلك في وقت وعلى حساب مجتمع ليست شرائحه كلها متدينة، ولا يمتد تأييدها لبرنامج المقاومة الذي يتبناه تنظيم معين ليشمل البرنامج الاجتماعي الأيديولوجي (الديني هنا) لذلك التنظيم. فهنا وقع وما زال يقع التوتر بين ما هو "مقاومي" وما هو "اجتماعي" فيما تطرحه حركات التحرر عادة. وحماس تتورط الآن في نفس الصيرورة التي مرت بها حركات كثيرة قبلها، عندما تقدم أو توازي أو حتى تقرب برنامجها الاجتماعي (لأسلمة المجتمع) من برنامجها المقاومي. ويجب أن تعلم أن الأول قد يخسرها بسهولة ما تكسبه عن طريق الثاني بصعوبة.
فالشعب الفلسطيني بتكويناته المختلفة لا يقبل صيغة طالبانية محافظة أو حتى قريباً منها لتكون هي المسار الأساسي المحدد لاجتماعه السياسي والثقافي/ الديني. صحيح أن تاريخ وسيرة حماس الماضية لا تقدم شواهد قاطعة على انتهاجها نهجاً مثل ذلك، لكن من الصحيح أيضاً أنها خلقت بشكل غير مباشر مناخاً يساعد على الانغلاق الاجتماعي وينشر الأفكار الصارمة حول ما يجوز وما لا يجوز عمله على مستوى الأفراد سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية. لم تتطور حماس على صعيد الانفتاح الاجتماعي كما تطورت على صعيد الانفتاح السياسي (لا يوجد حتى الآن أي وجه نسائي سياسي أو قيادي أو إعلامي للحركة تقدمه للإعلام، على سبيل المثال، يناظر على الأقل موقع المرأة الفلسطينية المتطور في الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل عام). وكما أن لكل ظاهرة متطورة بوتائر سريعة وأحياناً غير ناضجة تماماً ديالكتيك تداخل الإيجابي بالسلبي، فإن نظرة ورؤية حماس الاجتماعية (بعيداً عن فعلها السياسي والعسكري) وأثرها كان إيجابياً وسلبياً في نفس الوقت. ففي وقت يمكن أن تدعي فيه الحركة وبقدر كبير من الموثوقية أنها ساهمت في القضاء أو التخفيف من ظواهر سلبية في أوساط الشباب الفلسطيني مثل المخدرات والاتجار بها، أو أنها تفوقت في مجال الخدمة الاجتماعية ومساعدة آلاف العائلات الفقيرة، فإنها نشرت بين أوساط المستفيدين أولئك فكراً إقصائياً على المستوى الاجتماعي يقسم شرائح المجتمع إلى "فاضلين" و"فاسقين" بشكل مباشر أو غير مباشر. يتكرر حدوث هذا الفرز في الواقع ضمن أي سياق تتطور وتبرز فيه حركة دينية كما هو قائم ليس فقط في طول وعرض العالم العربي والإسلامي، بل وأيضاً في العالم الغربي والأميركي تحديداً. لكن بروز هذا التصنيف وعلو كعب "الأخلاقية الدينية" في سياق الحالة الفلسطينية وفي أي حالة مقاومة يكون فيها المجتمع مواجهاً لاحتلال عسكري يعقد المسألة ويجعل لها سمات إضافية خطيرة، تحيد بالحركة الوطنية عن هويتها الجامعة الفضفاضة لكن الفعالة.
فتجربة الحركة الوطنية الفلسطينية منذ أوائل القرن العشرين وحتى الآن أكدت على أن الصيغة الوطنية الاجتماعية الوسيطة التي تختلط فيها مكونات وطنية واجتماعية متنوعة مع تلوينات دينية مخففة هي الأكثر نجاحاً في استقطاب الشرائح الأوسع والأكثر من الشعب الفلسطيني. وعلى رغم النقد الإيديولوجي الشديد لمثل هذه الصيغة، وهي الصيغة التي تبنتها فتح، إلا أنها هي التي تجذرت في وجدان الشعب الفلسطيني على حساب الصيغ الأكثر تشدداً سواء الماركسية منها أو القومية العربية. وسينطبق على صيغ التشدد الاجتماعي/ الثقافي الدينية سواء أكانت "حماسية" أو غيرها ما كان قد انطبق على ما سبقها من صيغ أيديولوجية قصوى.