مع اتساع دائرة الإحباط والشعور بانسداد الآفاق في بعض الأوساط الإسلامية العربية نتيجة الخراب الحاصل في جلّ النظم العربية، راحت تتشكل ميول وأمزجة وعواطف لدى من ينتمي إلى تلك الأوساط، هي -في سِمتها الراجحة- أقرب إلى الأسى والكآبة والاغتراب· وهي في هذا، تدرك بكيفياتٍ وصيغ يتوزعها الوضوح والاضطراب والغموض أن أهم الأسباب الكامنة وراء ذلك ثلاثة أطراف تتمثل في التالية: 1) النظام السياسي الاقتصادي المهيمن· 2) القوى السياسية العلمانية المقموعة أو المُلحقة بتلك النظم· 3) قوى الإسلام السياسي، التي ما فتئت أطراف منه توغل في التشدّد والتكفير، وفي البحث عن الخلاص في صيغ ومواقف إسلامية لم تعد تنتمي إلى التاريخ الواقعي· وفي هذه الحال المتّسم بالإخفاق والسوداوية والتواتر بين العنف الإيديولوجي والسياسي، تجد الأوساط الإسلامية المذكورة -وهي تعيش على تخوم تلك المواقع الثلاثة- أن "الحل" خرج من أيدي المسلمين، "هؤلاء" المسلمين، ومن أيدي الآخرين، ليستقر في "الإسلام ذاته"·
وحيث يصل الأمر إلى هذا الموقع، يغدو السؤال مشروعاً: وما هذا الذي يعتبر "الإسلامَ في ذاته"؟ أما الجواب فيأتي من مرجعيّتين اثنتين، واحدة نظرية وأخرى عملية وواقعية· وتفصح المرجعية الأولى عن نفسها في المقولة التي طرحها الإمام محمد عبده، حيث أعلن: في الغرب يوجد إسلام دون مسلمين، أما في الشرق "الإسلامي" فيوجد مسلمون دون إسلام· وقد عبّر عن هذه المقولة لاحقاً أحد الإسلاميين المصريين، حين كتب ما يلي: إن الإسلام ينتصر، وإن هُزم المسلمون (عبدالحليم الجندي: أبوحنيفة - القاهرة، ص 208)· ومن شأن هذا أنه يعني أن الحامل البشري للإسلام، الذي هو المسلمون، إذا غاب لظروف تاريخية، فإن ذاك، أي الإسلام، يبحث عن حامل بشري له يمكن أن يجده في أوساط أخرى، حتى حين لا يكون انتماؤها الديني الإسلام· ذلك لأن هذا الأخير يمثل قيماً دينية يلتقي عليها أطراف متعدّدو الانتماءات الدينية، مهمٌ فيها أن تتطابق مع الإسلام في اتجاهاته وآفاقه العمومية، وفي هذا تعميمٌ له وجعل حقله مفتوحاً أمام من لا ينتمي إلى الإسلام، في خصوصيته الإيمانية المباشرة·
أما المرجعية العملية الواقعية للأخذ بـ"الإسلام في ذاته" فتتمثل في جموع المسلمين المُخيّبي الآمال من الأطراف الثلاثة، الذين أتينا على ذكرهم، فهؤلاء يقعون في حيرة وشك وخوف من الانصياع إلى المتشددين المكفّرين حتى لأولئك المسلمين الذين لا يرون رأيهم، ولا يجدون -في الوقت ذاته- ضالتهم لدى سدنة النظام المهيمن الظالم، ولدى خصومه أو ضحاياه· ولذلك هم يتوحّدون بذاتهم، ويبحثون عن خلاصهم خارج مجتمعهم وتاريخهم، وبعيداً عن عالم البؤس والحرمان والإذلال· إنهم يسلكون مسلكاً تصوفياً ينتزعهم من واقعهم، معتقدين أنهم بذلك إنما يصلون إلى برّ الأمان والسلامة والكرامة·
إن تعميم القول بأن "الإسلام ينتصر وإن هُزم المسلمون" قد يكون بمثابة ضبط الإسلام كحالة فردية تتحدد بعلاقة شاقولية بين الفرد وربّه، دونما ظهورٍ في علاقة أفقية تمتد من هذا الفرد إلى غيره من أفراد المجتمع· وهنا، في هذا السياق، يمكن أن يكون ذلك تعبيراً دلالياً عن حاجة الفرد المذكور للتفرد والانعزال، ومن ثم لإدانة المجتمع (العربي هنا)، الذي يوجد فيه· وفي مثل هذه الحال، قد تبرز احتمالات أخرى تُنتج الخروج على المجتمع، والاحتجاج، والدعوة إلى التغيير على نحو ما؛ بل يمكن أن تكون هنالك دعوة للعنف وحمل السلاح دفاعاً عن كفايته المادية المنهوبة وحريته المستلبة وكرامته المستباحة·
في ذلك الموقع الدقيق والمرهف، تلكأ الكثير من الباحثين العرب والغربيين عن استكشاف أحد جذور ما تطلق عليه أجهزة إعلام محلية وإقليمية ودولية "إرهاباً"· والحق، إن هذه زاوية قلّما تنبه إليها أولئك في حال البحث عن ذلك الأخير "الإرهاب"، وهي زاوية يمكن حجبها في حقل الدراسات في الإسلام عموماً والسياسي على نحوٍ مخصص· إذ كيف يمكن وضع اليد عليها في تلافيف أطروحة: الإسلام ينتصر، وإن هُزم المسلمون! ذلك لأنها -في بنيتها النصّية الظاهرة- قد يكون من الصعوبة بمكان أن يجري استنطاقُها باتجاه النتيجة المذكورة: العنف أو الإرهاب· إن الفكر العربي-الإسلامي مدعوٌ، بممثليه وبمن يبحث عن الحقيقة النسبية فيه، إلى أن يعيد النظر في قضاياه وحيثياته واحتمالاته، بالاعتبارين البنيوي والوظيفي· ومن هذا الموقع بالذات، تغدو الدعوة إلى الحوار العقلاني الديمقراطي بين أولئك جميعاً واحداً من المداخل الكبرى إلى مشروع عربي جديد في النهضة والتنوير والتغيير·