تزدهر التوجهات الديمقراطية في جميع دول العالم، وحتى الصين الشيوعية بدأت براعم الديمقراطية فيها تزدهر ببطء، لكنها تتحرك للأمام، إلا العالم العربي الذي يشهد ليس فقط تراجعاً، بل الاقتراب من حافة الانهيار والأفول· وإذا ما قارنت دول هذا العالم العربي مع غيرها ستشهد كـ"مراقب" تنامي التوجهات الاستبدادية بشكل غير معقول كما يتجلى ذلك في الأحكام القضائية المتشددة ضد كتّاب الرأي· وإذا ما تركنا الأنظمة السياسية جانباً سنجد أن الأفراد أيضاً لا يحبذون الديمقراطية كثيراً، بل يفضلون ممارسة الاستبداد إذا كان يصبّ في مصلحتهم· وشواهد الاستبداد في مجتمعنا كثيرة، منها الاستبداد الذكوري، واستبداد الزوج بالزوجة، والأب والأم بالأولاد، واستبداد الأستاذ بالطلبة، والرئيس بمرؤوسيه! إنها حالة عجائبية من شيوع للاستبداد في مجتمعاتنا العربية، والأكثر غرابة أن خمسين عاماً على الأقل منذ أن عرف العرب الديمقراطية نقلاً عن المستعمِر الغربي، لم تؤثر إيجاباً في نفسية وعقل الإنسان العربي سياسياً واجتماعياً· والسؤال: لماذا حالة الاستعصاء على الديمقراطية في نفوسنا؟ علماً بأن الإنسان العاقل، يفترض فيه الجنوح نحو الحرية!
لا شك أن الإجابة السهلة والشافية لمثل هذا السؤال الصعب ليست ممكنة، وأنه لا يوجد حل سحري لإنقاذ الديمقراطية الآخذة في الأفول، لكن مع ذلك أعتقد أن المشكلة تكمن في حقيقة أن الحوار وتقبّل الآخر ليست من القيم والمفاهيم التي نتعامل بها في حياتنا اليومية· وبدون الحوار والتعددية ممثلة بقبول الآخر لا مجال لازدهار الديمقراطية وقيمها ونظمها· والحوار لمن لا يعلم ليس هو الجدال أو الجدل، الحوار لغة تخاطب إنساني تتم لرغبة كل طرف في الاستماع لرأي الطرف الآخر بدون اتخاذ موقف مسبق بهدف الوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف بأقل قدر من التنازلات· في حين أن الجدل لا هدف محدد من ورائه، وإنما كلام في كلام من أجل متعة التكلم وإثراء الحديث· ولهذا لابد أن ينتهي الحوار لصالح الأقوى حجة عقلية أو مادية، في حين أن الجدل لا يسعى مطلقاً إلى نهاية محددة، بل يمتد إلى ما لا نهاية· وميزة الجدل تقوية الفكر التجريدي النظري، في حين أن الحوار يُفرض بهدف الوصول إلى حل لمشكلة قائمة في مجال مشترك يتيح بكل حرية لكل طرف تقديم ما لديه من أفكار بدون ضغط أو تهديد·
حوار الفرد مع المجتمع، وحوار الفرد كمحكوم مع السلطة، وحوار الفرد مع الفرد، كل هذه الحوارات مقطعة الأوصال في مجتمعنا العربي، وهذا ما لا ينكره عاقل· ومن ثم الزوج لا يتحاور مع زوجته، ولا الأب مع أبنائه، ولا الرئيس مع مرؤوسه، فما هو البديل؟ الاستبداد بالرأي، وهناك مثل عربي يدعم هذا التوجه وهو "شاور من تريد، ثم اعمل اللي في رأسك"! وللأسف أنه حتى المعلم في صفه لا يتحاور مع طلبته، ولا أشك للحظة واحدة بخلو مناهجنا التعليمية أو التربوية من هذه القيمة الإنسانية العظيمة، وخاصة أن المعلم أيضاً مقيّد بمنهج تعليمي جامد لا يوفر الفرصة لأي حوار، فالنهج التلقيني لا يسمح بذلك·
الحوار أساس الديمقراطية، وبدون حوار لا مجال لتقبل الآخر والتعددية، والإنسان العربي للأسف الشديد، إلى الآن لم يؤمن بفضيلة الحوار كقيمة إنسانية في حياته اليومية، ويكفي دليلاً على كل ما سبق، ما يصدر من فتاوى في نهاية كل عام ميلادي من عدم جواز مشاركة غير المسلمين أفراحهم أو تهنئتهم!.