احتفلت دول باندونج بمرور خمسين عامًا على انعقاد ذلك المؤتمر الذي عُقد في شهر أبريل 1955 وكان في حينه علامة فارقة في النظام الدولي القائم بقدر ما كان مؤشرًا على بزوغ "كتلة أفرو-آسيوية" تحاول أن تشق طريقها في مجال التحرر والتنمية. بدت أجواء الاحتفال بعيدة عن أن تكون محاولة لإحياء "روح باندونج" التي أسست على قيم التحرر الوطني والعدالة والمساواة بين الدول وكسر احتكار الدول الكبرى للقرارات الدولية الرئيسية في النظام الدولي، اضطرت الدول المعنية اضطرارًا للاحتفاء بالمناسبة درءًا للحرج الذي قد ينجم عن تجاهل ذكرى مناسبة بهذا الوزن. وعلى الرغم من أن الظروف الدولية الراهنة تحتاج –كما كان الأمر بالنسبة للظروف السائدة في خمسينيات القرن الماضي إبان انعقاد باندونج - نهجًا كذلك الذي اتبعته الدول الأفروآسيوية في باندونج فإن أوضاع الدول الأفروآسيوية الآن وسياساتها تبدو بعيدة كل البعد عن أن تفضي إلى حركة موحدة من أجل تحقيق أهداف مشتركة.
لا تبدو الظروف ملائمة الآن إذن لتكوين تلك الكتلة التاريخية التي حلم بها أبطال باندونج ووضعوها إلى حد بعيد موضع التطبيق. في 19 أبريل1955 وقف جمال عبد الناصر مخاطبًا المؤتمر في حفل افتتاحه قائلاً: "لقد اجتمعنا في هذا المؤتمر ممثلين للدول الآسيوية والأفريقية، وثمة تشابه يسترعي النظر بين الظروف القائمة في بلاد القارتين، وهو تشابه من شأنه أن يوحد بينهما، وقد تخلصنا من عهد طال أمده كنا فيه تحت تأثير نفوذ أجنبي في شؤوننا السياسية والاقتصادية سواء، تواجهنا الآن مشاكل النهوض الاقتصادي والتطور الاجتماعي والسياسي، فليس بعجيب إذن أن تقرب هذه الأمور بعضنا من بعض فنشعر بشعور واحد، وهو ما يبدو جلياً في وجهات نظرنا نحو السلم العالمي والعدالة الدولية".
في أعقاب مؤتمر باندونج نجحت هذه الكتلة في تحقيق إنجازات مؤثرة على الصعيد العالمي فانطلقت موجة التحرر الوطني تحقق نصرًا تلو الآخر، وفي وطننا العربي بصفة خاصة لم تمض سوى شهور قليلة على انعقاد باندونج إلا وكان قد تم كسر احتكار الدول الغربية لتوريد السلاح إلى المنطقة، بدأ ذلك بصفقة الأسلحة المصرية-التشيكية في سبتمبر1955، وتلا ذلك تأميم شركة قناة السويس في يوليو1956 والانتصار السياسي الكاسح لمصر وظهيرها العربي في عدوان السويس البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي في أكتوبر-نوفمبر1956، وفي هذا السياق أيضًا تصاعدت حركة التحرر الوطني في الجزائر وصولاً إلى النصر النهائي في 1962، واستقلت دول المغرب العربي كمقدمة لاستكمال مرحلة التحرر العربي، وبدا العالم كله مختلفًا بعد باندونج عنه قبل ذلك المؤتمر التاريخي بعد أن تحول احتكار القطبية الثنائية لقيادته إلى وضع تلعب فيه الكتلة الثالثة دورًا يُحسب حسابه.
غير أن الأمور لا ينبغي أن تؤخذ بهذا التبسيط، ذلك أن قوى الهيمنة في العالم لم تستسلم لهذا المد التحرري، ومن هنا بدأت هجومها المضاد فأسقطت في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي نظمًا تحررية قائدة كالنظام الإندونيسي بزعامة أحمد سوكارنو والنظام الغاني بزعامة كوامي نكروما ناهيك عن الضربة القاصمة –وإن لم تكن القاضية- لنظام عبد الناصر في مصر الذي كان يلعب باقتدار دورًا قياديًا في تلك المرحلة التاريخية، وذلك بعدوان 1967 الذي لقيت فيه مصر وسوريا والأردن هزيمة فادحة. صحيح أن الدول العربية لم تستسلم، وأن مصر قد خاضت بجسارة حرب الاستنزاف في أعقاب الهزيمة بشهور قليلة، وأن مصر وسوريا قد خاضتا حرب أكتوبر1973 ومعهما ظهيرهما العربي ضد إسرائيل لتحرير أراضيهما، وهي الحرب التي تحقق فيها أكبر إنجاز عسكري في مواجهة إسرائيل، لكن الأمر الذي لا شك فيه أن الهجوم المضاد لقوى الهيمنة قد تواصل حتى اليوم.
معنى هذا أن حركة التاريخ ليست مباراة بسيطة ينتصر أحد طرفيها وينتهي الأمر وإنما هي عملية بالغة التعقيد تقتضي التحسب لمعارك التاريخ الكبرى، والتحسب كذلك حتى بعد تحقيق الانتصار فيها لكي يتم الاحتفاظ بهذا الانتصار وتعزيزه، وبدون ذلك تصلح إنجازات الشعوب لأن توضع في متاحف التاريخ لا لأن تكون مرحلة في تقدم متواصل لا ينتهي، ومعنى هذا أن الورطة الكبرى التي تواجهها بصفة عامة دول الكتلة الأفروآسيوية (سابقًا) ومعها كل المقهورين في العالم أنها مطالبة أولاً بتحسين أوضاعها، وثانيًا بالانتصار في مواجهة التحديات الجسام التي تواجهها، وثالثًا بالحفاظ على هذا الانتصار وتعزيزه.
يبقى من الحديث عن روح باندونج ومن خلال التأمل في بعض وثائق المؤتمر التاريخي أن نذكر بالمعضلات التي حاول مؤتمر باندونج أن يواجهها وأخفق وما زالت ماثلة في الساحة الدولية حتى الآن. من هذه المعضلات على سبيل المثال القضية الفلسطينية التي عُقد مؤتمر باندونج ولم يمض على اغتصاب أرض فلسطين سوى أقل من ثماني سنوات والآن تكاد تقترب من الستين عامًا دون وصول إلى حل أو حتى تسوية وإن كان من الضروري أن نشير إلى أن حركة التحرر الفلسطيني الآن غيرها في1955، فهي الآن قادرة على ال