بالرغم من أن المفاهيم والتحليلات الأساسية التي لم نكف عن استخدامها منذ ثلاثة عقود في صراعنا المرير من أجل الديمقراطية لم تفقد من راهنيتها، خاصة ما تعلق منها بإبراز عواقب إخفاق الحركة القومية- الوطنية العربية وتطور ظاهرة الاستعمار الداخلي وتهميش المجتمع والشعب وتغييبهما لصالح السلطة الفئوية بدل بناء الدولة المواطنية، إلا أن التحولات الجذرية إن لم نقل الانقلابات التي طرأت على البيئة السياسية والجيوسياسية والفكرية في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط عموما خلال العقود القليلة الماضية قد غيرت كثيرا من الشروط التي تطرح فيها القضية الديمقراطية العربية في الوقت الراهن.
فبعكس ما كان عليه الحال في السبعينيات، تعيش المجتمعات العربية اليوم لحظة إفلاس النظم الواحدية, وبداية تحللها من الناحيتين السياسية والفكرية معا. فمع تواتر الإحباطات وتراجع مستويات المعيشة والركود الاقتصادي وتفاقم عمليات القمع وتقييد الحريات الفردية والجمعية تدهورت أيضا بشدة الشرعية السياسية التي كانت تتمتع بها بعض النظم التي كانت قد اكتسبت بعض الشعبية في فترة سابقة نتيجة تطبيقها سياسات اجتماعية ساهمت في إعادة توزيع الثروة الوطنية وفي دمج الفئات المحرومة والمهمشة منها في العملية الاقتصادية والاستهلاكية, أو بسبب ما كان يبدو على استراتيجياتها الوطنية من حرص على التمسك ببعض الأهداف القومية المرتبطة بفلسطين وبالتضامن العربي أو بمظاهر السيادة والاستقلال والدفاع عن المصالح الوطنية. كما قادت الإخفاقات المتكررة التي جعلت من المجتمعات الخاضعة له الأكثر تأخرا بين دول العالم في مجاراة التقدم الحاصل على جميع الأصعدة وزادت من إغراءات التدخل الأجنبي فيها إلى حرمان هذه النظم الواحدية من أي صدقية. وهي تظهر اليوم بعد ضياع عنصري الصدقية والشرعية عارية تماما أمام الرأي العام العربي والعالمي، ضعيفة وكسيحة لا تضمن لا أمنا ولا سلاما كما كانت توحي بذلك لعقود طويلة بقدر ما تشكل عقبة كأداء أمام تقدم المجتمعات وتفاعلها مع بيئتها الإقليمية والعالمية. وأصبحت مسألة تفكيكها من دون تكبيد مخاطر كبيرة للمجتمعات والدول شاغلا أكبر للمجتمعات والقوى الكبرى من مسألة التعامل معها أو الحد من هامش مبادرتها.
والمسألة الثانية هي أن الديمقراطية تتقدم في العالم العربي في الوقت نفسه الذي تنهار فيه مواقع هذا العالم الاستراتيجية والجيوستراتجية وتترافق بولادة إرادة الهيمنة الإمبرطورية. وتبدو الأجندة الديمقراطية العربية أكثر فأكثر وكأنها أجندة أميركية أو مفروضة من قبل القوى الدولية. وهو ما يدفع إلى التصادم أو التضارب القائم والمحتمل بين برنامج التحولات الديمقراطية وبرنامج الحفاظ على الخيارات الوطنية.
والواقع ليس للولايات المتحدة التي أدخلت مؤخرا شعار التحويل الديمقراطي في استراتيجيتها العالمية أي دور حاسم في انطلاق هذه الموجة الديمقراطية الجديدة في العالم. فالأصل فيها هو كما ذكرت خراب النظم الأحادية نفسها بسبب تآكل صدقيتها وانهيار أسس شرعيتها معا. وما تهدف إليه الولايات المتحدة من سياساتها الجديدة المؤيدة للديمقراطية هو استثمار هذه الفرصة المفتوحة أمام التغيير السياسي في المنطقة لتعيد موضعة نفسها في الخريطة السياسية الداخلية للبلدان العربية بعد أن أدركت أنه لم تعد لها مصلحة في الاستمرار في ربط نفوذها ببقاء النظم الاستبدادية المهترئة التي دعمتها خلال العقود الطويلة الماضية واستندت إليها في تطبيق سياساتها الإقليمية والدولية معا. فهي تسعى من خلال ركوب الموجة الديمقراطية التي يحبل بها المجتمع العربي إلى إنقاذ رهاناتها التقليدية واستعادة المبادرة وإيجاد حلفاء جدد لها من داخل البلاد العربية وقطع الطريق على منافسيها من الدول الأجنبية. ومما ساعدها على تحقيق أهدافها هذه وهي في طريقها لأن تحقق الكثير منها، هو سلوك النظم ذاتها التي ركزت جهودها في العقد الماضي على إجهاض أي قوى ديمقراطية ناشئة وقمعها على أمل أن تجبر الولايات المتحدة على الاختيار بين الطغم الحاكمة على قباحتها أو بين القوى الإسلامية المتطرفة التي تدرك مدى نفورها منها. والواقع أن سياسة قمع الحركة الديمقراطية وإغلاق الأبواب أمامها، سواء بالاعتقال اللاشرعي للكثير من قادتها أو بممارسة شتى أنواع الترهيب والتنكيل إزاء الناشطين المدنيين والسياسيين لمنعهم من الحركة ما كان من الممكن إلا أن تصب في الطاحونة الأميركية. فالرأي العام الذي فقد ثقته بالحكومات القائمة ولم يتعرف على قيادات جديدة في المعارضة الديمقراطية، أو لم يثق بقدرة قواها الضعيفة التي حرمت من فرص النمو على التغيير، قد دفع أكثر فأكثر إلى الاعتقاد بأنه لا تغيير ممكنا من دون التدخلات الخارجية.
وقد طرح هذا الوضع المفارق تحديات جديدة على الحركة الديمقراطية العربية. ففي الوقت الذي تبدو فيه شروط التحول الديمقراطي الأكثر ملاءمة للتغيير تبدو القوى الديمقراطية العربية المنظمة أقل من أي حقبة سابقة استعدادا