في جاكارتا العاصمة الأندونيسية انعقد مؤتمر رؤساء دول آسيا وأفريقيا، وصدر عنه يوم السبت الماضي البيان الذي وصف بأنه بيان تاريخي. ويوافق انعقاد "مؤتمر جاكارتا" الذكرى الخمسين لذلك المؤتمر التاريخي الأول لرؤساء آسيا وأفريقيا الذي عقد في جزيرة باندونج الأندونيسية الجميلة والذي صدر عنه "ميثاق باندونج". المؤتمر الأول دعا إليه ونظمه وقاده نجوم ذلك العصر الذهبي اللامعون، نهرو وناصر وسوكارنو وشون لاي.
في ذلك الزمن كانت قارتا آسيا وأفريقيا برغم وجودهما التاريخي القديم أشبه بكمٍ مهملٍ في حركة السياسة الدولية، وكانت الحرب الباردة التي أعقبت الحرب الكونية الثانية، وكان حلف الأطلسي وحلف وارسو، وأميركا والاتحاد السوفييتي هم الذين يضعون أجندة السياسة الدولية ويصكون شعاراتها، وقد قسموا العالم آنذاك إلى معسكرين: العالم الحر... والستار الحديدي، حسب تعبير رئيس الوزراء البريطاني الشهير وينستون تشرشل. أفريقيا كانت معظم شعوبها ما تزال ترزح تحت أغلال الاستعمار الأوروبي، وحركة التحرر الوطني الأفريقية تحاول أن تشق طريقها نحو الاستقلال والحرية, وآسيا لم تكن بعد قد نهضت وكانت ما تزال تعاني من آثار جراحات الماضي. وفي منظمة الأمم المتحدة التي علقت عليها الشعوب المستعمرة آمالاً عريضة لم يكن لأفريقيا سوى عدد محدود جداً من المقاعد، وكان صوت أفريقيا ما يزال بعد خافتاً وغير مسموع, وآسيا القارة التي تعيش فيها نصف البشرية كانت تمثلها "فورموزا" الجزيرة الصغيرة والقاعدة الأميركية التي زرعت في خاصرة الصين.
وهكذا في ذلك التاريخ -النصف الأول من القرن العشرين- كانت قارتا آسيا وأفريقيا تعيشان آلام المخاض الحادة وهما تبحثان عن مكان في مسرح السياسة الدولية.
ومن باندونج وفي عام 1955 جاءت بشارة الميلاد الجديد، ودخلت باندونج وميثاقها والزعماء الذين رتبوا وقادوا المؤتمر كتاب التاريخ . مؤتمر باندونج الذي شارك فيه عدد صغير من رؤساء الدول الآسيوية والأفريقية المستقلة كان نقطة البداية والانطلاق لحركة تضامن الشعوب الأفريقية- الآسيوية التي خرجت من رِحمِهِ, والتي كان لها فيما سيلي من الأيام دور تاريخي كبير في حركة التحرر الوطني وخاصة بالنسبة لأفريقيا. ومن باندونج دخلت كلمات وتعبيرات جديدة في قاموس مفردات السياسة الدولية... الحياد، عدم الانحياز، الحياد الإيجابي. ونهضت حركة شعبية واسعة - وبخاصة في عالمنا العربي- مناهضة للأحلاف والتكتلات والقواعد العسكرية... مبدأ ايزنهاور - حلف الشرق الأوسط - حلف بغداد.
مؤتمر باندونج كانت أجندته هي هموم وقضايا مرحلته التاريخية الحافلة، ومؤتمر جاكارتا كانت أجندته هي أجندة المرحلة التاريخية الحالية التي يواجه فيها الآسيويون والأفارقة - فقراء العالم- هموم العولمة وما تحمله من تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية لدول وشعوب عالمنا الثالث التي تكافح من أجل الخلاص من قبضة الثالوث المتوحش... الفقر والجهل والمرض، وما يحمله من "آثار جانبية" على حياتها السياسية والاجتماعية. ولقد وصف المجتمعون في جاكارتا مؤتمرهم بأنه "مؤتمر تاريخي", وأنه "بداية لمرحلة من التعاون بين آسيا وأفريقيا لتمتين العلاقات الاقتصادية والسياسية بين القارتين". وذلك أمر طيب ويدعو للتفاؤل بالمستقبل، ولكن الأفضل منه كما قال رئيس جنوب أفريقيا في خاتمة المؤتمر: "إن شعوبنا تنتظر منا العمل الجاد والتوجه الفعلي لتمتين الروابط التجارية وتنمية الاستثمارات والعمل المشترك لحل المشاكل والصراعات التي تعاني منها".
لقد كانت باندونج نقطة البداية وستظل تذكر في التاريخ بكل زخمها وإشراقاتها غير المنكورة. ولعل جاكارتا تكون نقطة بداية لزخم جديد لآسيا وأفريقيا في القرن الحادي والعشرين.