لم يسبق أن تعرّض المجتمع العربي لحملات إغواء مركّزة ومستمرة كالتي يتعرض لها حالياً. وهي حملات تستهدف ثوابته والقيم الإنسانية الكبرى المتعارف عليها وتصدر عـن جهتين: خارجية وداخليـة. سلطوية ومجتمعية. مقال اليوم سيركّز على الإغواء الخارجي المتمثل أساساً في كرنفالات الإغواءات الأميركية.
منذ أن وضعت أميركا مشروعها الاستعماري لتغيير بنية وفكر وعقائد المجتمع العربي هبّت على المنطقة حملات منظّمة مدعومة بالمال الأميركي الرسمي ومتناغمة مع مؤسسات مدنية منتقاة بعناية من أجل التضليل وخلط الأوراق. الإغواء الفكري يتمُّ عن طريق محطات تلفزيونية وإذاعية أميركية وعربية متعاونة، وعن طريق كتاب ومذيعين عرب يحصلون على أنواع لا تحصى من الدعم المادي والمعنوي، وعن طريق سيل جارف من المؤتمرات تُنتقي مواضيعها وينتقى متحدثوها ببراعة. أما الإغواء السياسي فيتم عن طريق دعم أحزاب أو معارضين سياسيين بالمال وبالأنوار الإعلامية وحفلات الترحيب في العواصم الكبرى. وأما الإغواء العقيدي فيركّز على الاستخفاف بثوابت كبرى من مثل وحدة العرب أو فكرة الجهاد ضدّ المعتدين والغزاة.
فإذن هي حملات تعتمد على المال والتّضليل الإعلامي والاستقواء بعناصر في الداخل من أجل خلخلة البني الفكرية والعقيدية في المجتمع, وخطورتها تكمن في أساليبها الأميركية المشهورة التي تعتمد بيع الأحلام والأوهام تماماً كما تباع البضاعة، وتعتمد أنصاف الحقائق والتسطيح والعناوين المفرغة من أي محتوى جادٍّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ له صلة بالواقع.
هناك سؤال أساسي يطرح نفسه: هل يمكن عزل حملات الإغواء هذه عن التاريخ الأميركي مع العرب وعن الفلسفة السياسية التي تتبنّاها القيادة الأميركية الحالية؟ هذا سؤال محوري. أما التاريخ فلا حاجة للخوض في تفاصيله فالجميع يعرفه، بدءاً بتبنّي المشروع الصهيوني برمّته ودعمه عسكرياً واقتصادياً وسياسياً منذ عام 1948 وحتى يومنا هذا، مروراً بمحاربة كل المشاريع العربية التحررية أو التوحيدية، وانتهاء بعار احتلال العراق والهجمة المسعورة على العرب والمسلمين. ذاك تاريخ حافل بالظلم والهمجية والاستزلام للقوى الصهيونية الأميركية الداخلية والاستعداء الدائم لطموحاتنا في الوحدة والاستقلال والتقدم.
أما الفلسفة الحياتية والسياسية التي تقف وراء الجنون الأميركي الحالي فنجدها عند الفيلسوف الأميركي اليهودي المتبنّي للصهيونية علناً ليو ستراوس والمعروف بأنه الأستاذ العقيدي لعدد كبير من قادة النظام السياسي العسكري - الاقتصادي الأميركي. وترتكز فلسفته على أن الإنسان كائن أنثروبولوجي طبيعي (من الطبيعة) ينشد حريته المطلقة، ولذلك فهو فردي حتى النخاع، وتقوم حياته على فكرة صراع البقاء ومنافسة الآخرين والتغلب عليهم, ولذلك فهو في حالة حرب ضدّ الجميع, ومهمة الدولة هي ممارسة العنف والقوة من أجل حماية أمن هذا الفرد المهموم بمصالحه وانتصاراته. والنتيجة قيام فلسفة تهمِّش فكرة الإنسان ككائن أخلاقي وتحطُّ من قدر فكرة التمدُّن والانضباط التي قامت عليها الحداثة الأوروبية.
لقد وجد اليمين المسيحي الصهيوني الأميركي ضالته المنشودة في فلسفة الغاب هذه, وتلاعب بها لتصبح الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الدولية. فكان لابدّ من الانتقال إلى حملات احتقار الأمم المتحدة، والازدراء بأوروبا العجوز العاجزة، واختلاق هدف للعدوانية القابعة في هذه الفلسفة تَمثّل في ثقافة العرب والمسلمين، والاحتفاء بأبطال سفاحين من أمثال شارون.
من حقنا أن نسأل الكتاب والإعلاميين والسياسيين العرب الذين يمجدون نبل وطهارة الحملات الأميركية الإغوائية ليل نهار، ويسقطون في وحل غواياتها دون خجل، كيف لا يرون هكذا تاريخ ولا يقرؤون هكذا فلسفة؟ وليعذرونا أننا لا نرى في عماهم هذا براءة الأطفال لأن تناقض ذلك التاريخ العار وتلك الفلسفة مع كل ما تقوله أميركا لا تستطيع تغطيته كل مياه المحيط الأطلسي.
مطلوب ممّن لديهم حساسية تجاه الصّدق والعدالة والتمدُّن أن يَبنُوا خطاباً متماسكاً يكشف ما وراء الغواية الأميركية المخادعة التي تسعى الماكينة الإعلامية التابعة لها ولمن يسير في فلكها أن تبيعها لنا.