لن تستطيع مهما أوتيت من بلاغة أو قرأت من مراجع أو زرت من دول وحضارات أن تصل لمفهوم يجمع عليه الناس حول معاني العولمة، والسبب يكمن في أن العولمة في تصوري الشخصي كلمة فلسفية بها عدة متغيرات تتحول مع التطبيق لنماذج متغيرة، ومن هنا انقسم الناس حولها إلى فئات ثلاث. منجرف معها بكل جوانبها، أو رافض لها ويتمحور شعاره حول صعوبة قبول تحكم فكرة واحدة في الكون، أما الحزب الثالث فقد رأى الأخذ ببعض جوانب العولمة وترك الجانب الذي لا يعجبه.
من ربط العولمة بالأمركة، أي أن أميركا هي النموذج الناجح للعولمة، تطلب منه الأمر القيام ببعض الأمور الصعبة في بداية الانطلاقة من هذه التغيرات. تحول النظام السياسي من الفردي إلى الديمقراطي، كما تطلب الأمر تسهيل القوانين الاقتصادية، مما أسهم في الانفتاح الاقتصادي وجلب المزيد من الاستثمارات.
ومن أفضل الأمثلة على ذلك, تايوان التي استطاعت خفض الفقر فيها إلى النصف تقريبا خلال عشر سنوات. وقد بدأت تايوان كما يقال بالتحول من دولة زراعية فقيرة يحتكر البعض فيها الأراضي الزراعية ومن عليها, إلى بلد صناعي, عندما ملّكت الحكومة الأراضي للناس, مما حولهم من مزارعين إلى مالكين. ومن ثم تزايدت رؤوس الأموال لديهم فتحولوا إلى الجانب الصناعي وبدأوا بصناعة الكرتون الذي يلف المنتجات الأميركية. هذه الصناعة تطورت إلى صناعة ما يباع داخل هذه الكراتين. إذن, من يؤمن بالعولمة يرى أن تايوان نموذج للنجاح صنعته العولمة.
الصين في المقابل بلد شيوعي كما يعرف الجميع، تأخذ بعض جوانب العولمة ومن ذلك البعد الاقتصادي. وقد أعادت تشكيله كي تحقق أهدافها. ومن هنا نرى أن نسبة الفقر لديهم منخفضة. الصين, بلد ناجح بالرغم من سيطرة الحزب الحاكم، وأهم دليل على ذلك أنها كدولة لم تنهرْ مع تفكك الاتحاد السوفيتي بل ما زالت تمثل إحدى أقوى أمم الأرض.
من يرفض العولمة إطلاقا يرى أنها نمذجة للأمم في دولة واحدة هي الولايات المتحدة، والتي تريد السيطرة على العالم عن طريق احتكار القوة المسلحة. فهي لديها أقوى جيش منتشر حول العالم في قواعد ثابتة على الأرض أو متحركة في البحر، كما أنها تريد احتكار العقول، وذلك باستقطاب المفكرين في العالم كله والسيطرة على باقي البشرية بنشر الثقافة الأميركية عبر أخطر جهازين للتنشئة هما الإعلام والتربية. أما في التعليم فالنموذج الأميركي هو الأصلح, وهو الذي يتهافت الناس عليه اليوم.
أما البعد الثالث من أبعاد الأمركة فهو السيطرة الاقتصادية حيث تمتلك الشركات الكبيرة في العالم وبالذات عبر القوانين العالمية مثل "الجات" وغيرها وشعارهم "كوكلة" العالم نسبة إلى المياه الغازية المعروفة أو "مكدونلة" العالم. هذه المخاوف وغيرها أدت إلى أن توقع 1200 منظمة غير حكومية من 87 دولة على وثيقة ترفض اتفاقية "الجات".
بعد كل ما سبق يطرح سؤال نفسه: هل نحن مع أم ضد العولمة؟ والمضحك في الإجابة التي قد تكون تأخرت بعض الشيء أن الأمر لم يعد مهما. فإن كنت مع الأول فأنت في محور الخير, وإن كنت مع الثاني فأنت في مثلث الشر، فما العمل؟. الدول العاقلة هي التي تعرف أن العولمة بمؤسساتها الحالية هي فترة تاريخية مرت وسيمر غيرها على البشرية, وبالتالي المطلوب ليس رفض العولمة, لكن أن نكون فاعلين فيها. فإما أن تكون فاعلا مرفوع الرأس, أو تكون مفعولا به منصوب الهوية والاقتصاد. والعقلاء فقط هم من أدركوا هذه الأمور فأطلقوا شعار العالمية بدلا من العولمة, ومعناه أن تجارب العالم الناجحة ملك للبشرية ومن حق الجميع الاستفادة منها لأنه كان لنا جانب من صناعتها.