في الصين تُحسب الأجيال تبعاً لمظاهراتها، فالذين تتراوح أعمارهم اليوم بين الـ35 والـ40 سنة هم أبناء مظاهرة "ساحة تيان آن مين" في 1989، طلباً للديمقراطية. أما من تتراوح أعمارهم الآن بين الـ25 والـ30 سنة، فأبناء المظاهرات التي شهدها عام 1999 احتجاجاً على الولايات المتحدة بعد قصف إحدى طائراتها الحربية سفارة بكين في بلغراد. لكن الذين هم اليوم بين الـ18 والـ25 عاماً يُعدّون ثمرة المظاهرات التي ضمت عشرات الآلاف ضد اليابانيين.
وهذا التغير لم يأتِ عفوياً، ذاك أن حكومة بكين التي لا تريد لما حصل في 1989 أن يتكرر، استثمرت في المشاعر القومية التي تحمل شبانها على الوقوف وراءها، بدل الوقوف ضدها. والحال أنها نجحت في ذلك: فالأعمال الجماهيرية التي شهدتها مدن الصين مؤخراً عبّرت عن غضب عارم وعاصف. فقد حفّت بها اعتداءات جسمانية على أفراد يابانيين، فضلاً عن ممتلكات ومصالح يابانية في الصين، ودعوات إلى مقاطعة السلع المصنوعة في طوكيو. وإلى إبداء المتظاهرين ولاءهم للصين، واستعدادهم للموت في سبيلها، تم تشويه صورة رئيس الحكومة اليابانية جونيشيرو كويزومي الذي قُدّم على نطاق واسع، وجهاً ذا أنياب تنزّ دماً. وكما هي العادة حينما تهيج الغرائز، اقتُحمت مطاعم يابانية، إلا أن مالكيها صينيون، فيما أحرقت سيارات يابانية أصحابها، كذلك، صينيون. وبطبيعة الحال تولّت الشعارات والهتافات واليافطات إعلان سبب الاحتجاج العنيف لدى جبار آسيا الأول حيال جبارها الثاني: الحصول على اعتراف صريح من طوكيو بجرائمها في الحرب العالمية الثانية، وفي الحرب الصينية- اليابانية التي سبقتها، فضلاً عن بتّ أمر الجزر المتنازع عليها بين البلدين لصالح الصين.
هذه المظاهرات التي توالت، وتعاظم المنضمون إليها في أمكنة ومدن متفرقة من الصين، هددت بإرجاع العلاقة بين البلدين إلى ما كانت عليه قبل 1972، وهو العام الذي تمت خلاله استعادة العلاقات الديبلوماسية بينهما. وهو تردٍّ لم تكن طوكيو بريئة فيه أو منزهة عن استثارته. فهي لم تقتصد في الاستفزاز، إذ أعلنت عن ابتداء التنقيب في مياه الجزر الواقعة في بحر الصين الجنوبي (مما تدعي بكين ملكيته)، بحثاً عن النفط والغاز. وقد سارع رئيس الحكومة الصينية، وين جياباو، في يوم الإعلان نفسه، إلى التصريح بأن بلده لن يدعم اليابان في محاولتها الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن. وسبقت هذا كله موافقة طوكيو على كتب مدرسية جديدة للتاريخ تطمس ما ارتكبته القوات العسكرية اليابانية إبان الحرب العالمية الثانية وقبلها، بما في ذلك المجزرة التي قضى بنتيجتها عشرات آلاف المدنيين الصينيين (والبعض يقول مئات الآلاف) في نانجينغ عام 1937. ولم تكتف الكتب الجديدة بطمس المجازر، إذ تجاهلت تطويع النساء الصينيات للعمل الإجباري كمومسات في مواخير الجيش الياباني، كما لم تُشر بحرف إلى إجراء تجارب بالأسلحة البيولوجية على قرى صينية.
صحيح أن الكتب المذكورة، التي نشرتها مجموعة يابانية شديدة التطرف اليميني والقومي، لا تُدرّس إلا في عدد ضئيل جداً من المدارس. لكن الصحيح أيضاً أن الحقيقة هذه لم تلطّف الاتهام الصيني لحكومة طوكيو بالوقوف وراء الكتب المذكورة. وثمة أسباب عدة جعلت الصينيين يصرون على تأويلهم الاتهامي هذا، فمن المعروف جيداً أن ساسة اليابان كلهم رفضوا، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، أن يتلفظوا بأي اعتذار صريح وواضح للصينيين، لا يغير في ذلك الاعتذار الياباني الخجول والمشوب بالغموض، عن ارتكاب الحرب، الذي نقلته، قبل أسبوع، قمة جاكارتا. فكويزومي، مثلاً، لا يزال يصر على القيام بزيارة سنوية للنُصب الحربي في ياسوكوني تكريماً منه لمجرمي الحرب اليابانية بصفتهم أبطالاً وضحايا. يتم هذا كله على خلفية تستثير مخاوف جدية عند المعنيين جميعاً، أكانوا من أهل المنطقة أم من خارجها. فتعاظم القوة الصينية، الاقتصادية فضلاً عن العسكرية، يحرك لدى اليابانيين قلقاً وتوتراً يدفعانهم إلى توثيق الصلة بالولايات المتحدة طلباً للحماية، أو على الأقل الموازنة مع بكين.
وهي قصة تتالت فصولاً، إلا أنها تندرج في التحولات الاقتصادية والاجتماعية وما يترتب عليها من تعديلات في موازين القوى، وفي المشاعر تالياً. ذاك أنه بعدما استمر التعامل الياباني مع الصين، خلال السبعينيات والثمانينيات، بوصفها بلداً فقيراً يستحق الإحسان والمساعدة، أضحى اليابانيون هم من يخاف الصين، وأحياناً يطلبون نجدتها. ففي العام الماضي مثلاً، ارتفعت التجارة الثنائية بين البلدين بنسبة 27 في المئة، لتصل إلى 162 مليار دولار. لكن طوكيو، في سعيها إلى الخروج من ركودها المديد، كانت أكثر احتياجاً مما كانت بكين، إلى تحسين التبادل التجاري، حتى بدا أن الثانية تساعد الأولى من خلال المتاجرة معها. لا شك في أن الفارق لا يزال ضخماً في أمور كثيرة بين الـ1.3 مليار صيني والـ128 مليون ياباني: فسنوات توقع الحياة للصيني 69 عاماً وللصينية 73 عاماً، فيما هي للياباني 78 عاماً ولليابانية 85