لقد أسهبنا في شرح مصطلحات ابن رشد وابن خلدون وآرائهما في الدولة. والدولة التي فكرا فيها واستلهما معطياتها، قبل غيرها، هي الدولة التي عاشا في كنفها، دولة القرون الوسطى في العالم العربي. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ماذا بقي من هذه الدولة اليوم؟
لابد من أن نلاحظ أولا أن الدول القائمة الآن في العالم العربي لم تكن كلها موجودة كدول مستقلة متميزة زمن ابن رشد وابن خلدون. ولعل الدولة التي يصدق عليها القول إنها كانت موجودة ومتميزة منذ زمن ابن رشد وابن خلدون، بل وقبل زمنهما، والتي ما زالت تجر معها تاريخها منذ ذلك الوقت، هي الدولة المغربية. فلنتخذها نموذجا، خصوصا وهي أقرب إلى كل من ابن رشد وابن خلدون من غيرها.
بوسعنا إذن أن نجيب عن سؤالنا: "ماذا بقي من الدولة التي فكر فيها ابن رشد وابن خلدون؟"، بالقول إن أول شيء يقدم نفسه كجواب عن هذا السؤال هو اسم تلك الدولة، أعني "المخزن". والسؤال الآن هو: ماذا بقي في "المخزن" الجديد القائم اليوم من "المخزن" القديم كما تحدث عنه كل من ابن رشد وابن خلدون. هل عانى هذا "المخزن" من قبل، أو يعاني اليوم، من "الهرم" الذي جعل منه ابن خلدون مصيرا حتميا؟ هل مازال المخزن دولة "مركبة" من فضيلة وكرامة وحرية وتغلب، كما يقول ابن رشد؟ وهل مازالت قوانينه "مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية"، كما يقول ابن خلدون؟ ثم ما نوع العلاقة القائمة في هذه الدولة بين السلطة والمال؟ هل ما زالت مجالا لقانون ابن خلدون الذي يجعل التملق مصدرا للجاه، والجاه مصدرا للمال؟
بوسعنا أن نجيب بالإيجاب وباختصار كما يلي:
- لقد تعرضت دولة المخزن للهرم المحتوم في أوائل القرن العشرين مع فرض الحماية الفرنسية على المغرب.
- ثم حصل تجديدها بـ"إضافة عمر إلى عمرها"، حسب عبارة ابن خلدون، مع محمد الخامس الذي انفصل عن عملاء الاستعمار من المخزن القديم وتحالف مع الحركة الوطنية.
- فتحقق الاستقلال وتجددت الدولة وساد في تركيبها عنصر "الفضيلة" بتعبير ابن رشد، لأن محمد الخامس "صاحب الدولة –كان- أسوة قومه (الوطنيين) "لا ينفرد دونهم بشيء" حسب عبارة ابن خلدون.
- ثم عرفت هذه الدولة، خلال الأربعين سنة التي تولى فيها أمرها الحسن الثاني، نوعا من "التركيب"، شبيه بذلك الذي تحدث عنه ابن رشد، فعرفت فترات يطبعها "التغلب والاستبداد"، وأخرى أقرب إلى "الكرامة" أو "الحرية"، لينتهي به الأمر، في أواخر عمره، إلى الشروع في تغليب "الفضيلة" على العناصر الأخرى، بإقرار ما عرف بـ"التناوب التوافقي" الذي جاء أشبه بذلك الذي بدأ على عهد والده محمد الخامس مجدد الدولة.
- أما الاغتناء بالدولة وبواسطتها حسب قانون "التملق مفيد للجاه" و"الجاه مفيد للمال"، فقد كان وما زال ظاهرة متفشية. وهي التي تقف وراء التفاوت الفاحش بين أقلية من الأغنياء وأكثرية كاثرة من الفقراء.
- واليوم، مع محمد السادس، كان ينتظر أن يتم الانتقال إلى التناوب الديمقراطي الحق، وبذلك يتم تجاوز دولة "المخزن" والانتقال إلى الدولة الديمقراطية. لكن هذا لم يحدث لحد الآن! فلنكتف إذن بالقول: إن هذا الانتقال ما زال مشروعا للمستقبل!
وهذا الذي حصل في المغرب يمكن أن يكون قد حصل مثله في بعض الدول العربية، ولكل أن يدخل عليه من التعديلات ما يراه ضروريا لتطابق مع واقع بلده. فأهل مكة أدرى بشعابها! ومع ذلك فـ"كلنا في الهم شرق".
نخلص مما تقدم إلى النتيجة التالية:
الانتقال إلى الديمقراطية في العالم العربي، لن يكون له مضمونه التاريخي الحق إلا إذا كان يعني تدشين قطيعة نهائية مع "التركيب" الذي طبع دولة ابن رشد ودولة ابن خلدون ومع قانون "التملق مفيد للجاه، والجاه مفيد للمال" الذي شكل جوهر العلاقات فيها. وإذا كنا قد استحضرنا ابن رشد وابن خلدون فلأن حاضرنا ما يزال يقع ضمن أفقهما. وغني عن البيان القول: إن طموحنا الديمقراطي سيكون متخلفا عن عصرنا إن لم نضعه خارج أفقهما. ومع أن أفق ابن رشد يختلف عن أفق ابن خلدون من حيث إنه كان يؤمن بإمكانية الإصلاح لكون الحكم في نظره من الأمور التي تنتمي إلى الإرادة البشرية وليس إلى جبرية "طبائع العمران"، كما كان يرى ابن خلدون، فإن "المدينة الديمقراطية" التي تعني دولة المؤسسات التي ينتخبها الشعب بوصفه مصدر السلطات كانت تقع خارج أفق تفكيرهما، خارج مجال المفكر فيه خلال القرون الوسطى. إن الفكر الإصلاحي القديم كان يتحرك داخل "التركيب" الذي شرحناه. أما اليوم فالمطلوب ليس القضاء على هذا التركيب بالمرة، فهذا غير ممكن، إذ ما من مجتمع إلا وهو مركب بصورة ما، وإنما المطلوب هو صب التركيب في مؤسسات يحكمها التعبير الديمقراطي الحر، وهو ما كان غائبا عن أفق ابن رشد وابن خلدون.
وإذن، فإذا كان ابن رشد وابن خلدون ضروريين لنا في التماس الجواب لسؤالنا الأول: "من أين؟"، فإن الجواب عن سؤالنا الثاني "إلى أين؟" يتطلب مغادرة أفقهما والارتباط بأفق الحداثة و