ضاعت، إذن، فرصة البدء في إعادة بناء النظام السياسي والاجتماعي في لبنان. وانتكست ثورة التوقعات التي ترتبت على ما بدا أنه تغيير كبير في الساحة اللبنانية عقب صدمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 14 فبراير الماضي. فقد خلقت تلك الصدمة إرهاصات لتفاعلات سياسية واجتماعية جديدة بدا للجميع أنها تعبر عن ميل إلى تجاوز الانتماءات الطائفية التي كبّلت النظام والمجتمع في لبنان لفترة طويلة.
فعلى مدى نحو ستة أو سبعة أسابيع عقب اغتيال الحريري، نجح شبان وشابات من جميع الطوائف تقريباً في تقديم صورة جديدة غير معهودة منذ تأسيس النظام اللبناني عام 1943 على قاعدة التقاسم الطائفي. غير أن هذه الصورة أخذت تتوارى بسرعة فور الشروع في الإعداد للانتخابات البرلمانية التي بدأت مرحلتها الأولى في 29 مايو الماضي. فقد أعادت المصالح الانتخابية الأوضاع إلى ما كانت عليه. وهيمنت النزعات الطائفية والتحالفات التقليدية على هذه الانتخابات، بالرغم من أن إجراءها في موعدها كان انتصاراً للانتفاضة الشعبية التي بدا أنها اخترقت الانتماءات الطائفية الضيقة. وهكذا فبدلاً من أن تكون هذه الانتخابات نقطة تحول إلى الأمام باتجاه نظام جديد، أعادت تثبيت الأساس الطائفي- التقليدي للنظام القديم، ولكن في ظروف مختلفة بعد انسحاب القوات السورية.
ولعل أخطر ما في الوضع اللبناني الراهن هو أن الوصول إلى توازن جديد مستقر، ومستقل عن الدور السوري، مشروط بدور شعبي بزغ لعدة أسابيع ثم لم يلبث أن انحسر. وفي غياب هذا الدور، يحدث الآن تناقض متزايد بين التغيير في ميزان القوى وثبات الميول الطائفية بل تضخمها. فالتطور الآمن في مثل هذا الوضع هو الذي يقترن بتغيير في الذهنية والممارسة ودخول قوى جديدة شابة، الساحة السياسية على نحو يضمن تبلور التوازن الجديد للقوى في إطار نظام يتجه إلى الإفلات من أسر النزعة الطائفية.
ولكن هذا التطور الآمن لا يبدو وارداً في المدى القصير بعد أن أُعيد تكريس السياسات الطائفية في العملية الانتخابية الجارية الآن. فقد استعادت القيادات التقليدية ذات المنبت الطائفي زمام المبادرة التي كان الشباب الراغب في تجاوز الطائفية قد انتزعها خلال المظاهرات والاعتصامات وغيرها من أشكال الاحتجاج الجماهيري عقب اغتيال الحريري. وتقوقعت هذه القيادات كلها في انتماءاتها الطائفية الضيقة بدرجات متباينة، ولكن الفروق بينها قليلة. ولئن بدا أن قياديين مسيحيين هم الأكثر مغالاة في خطابهم وميلهم إلى التجييش الطائفي، فلأن هؤلاء هم الذين تعرضوا إلى القهر في ظل الوجود السوري. ولكنهم ليسوا وحدهم في ذلك، إذ يشاركهم قياديون مسلمون الميل الطائفي نفسه.
وفي مثل هذا السياق، انهمك كل طرف من أطراف اللعبة السياسية- الطائفية دون استثناء، في السعي إلى زيادة حصته أو الحيلولة دون نقصانها. ولم يترك هذا الانغماس مجالاً للعمل على تطوير النظام السياسي عبر دعم قيم الحرية والمساواة والحوار واحترام القانون. ولذلك ذهبت المشاركة الشعبية ضحية الميل المتزايد إلى إقامة تحالفات طائفية. واختفت من المشهد الانتخابي تلك الجموع الحاشدة التي يعود إليها الفضل الأول في إجراء الانتخابات في موعدها وبدون وجود سوري يوجهها ويحدد الكثير من نتائجها مسبقاً، وذلك للمرة الأولى منذ الحرب الأهلية واتفاق الطائف.
وهنا تبرز الدلالة العميقة لاغتيال سمير قصير يوم الجمعة الماضي بعد دوره المشهود في الانتفاضة الشعبية الأخيرة. فالصحفي العلماني المغدور، لا يجد حماية في أجواء مشحونة بالطائفية، ولا مكان فيها لأنصار التحديث السياسي والاجتماعي بعد أن أخلوا الساحة التي كانوا قد ملأوها لأسابيع.
وليس في غياب هؤلاء وجمهورهم عن المشهد الانتخابي الراهن، بعد حضورهم الكثيف في تظاهرات واعتصامات ساحة الشهداء، تناقض حقيقي. صحيح أن الذين حضروا بصفتهم مواطنين محتجين رفعوا شعار الوفاء للحريري غابوا بصفتهم ناخبين كانوا مدعوين إلى مواصلة هذا الشعار عبر المشاركة الانتخابية.
غير أنه إذ عُرف السبب بطل العجب، ومن ثم زال التناقض أو قل. فالذين حضروا في تظاهرات بيروت وفاءً للحريري مارسوا سياسة وطنية ديمقراطية رفيعة المستوى، وعبروا عن إحدى أرقى حالات الممارسة السياسية على الصعيد العربي برمته في العقود الأخيرة. وقد غاب معظم المسجلين من بين هؤلاء في المرحلة الأولى للانتخابات حتى لا يهبطوا إلى مستوى ممارسة سياسة طائفية تتعارض مع ما مارسوه وارتفعوا معه في مدارج السياسة الوطنية الديمقراطية قبل أسابيع قليلة على هذه الانتخابات. ولذلك فهم لم يناقضوا أنفسهم، بل على العكس حافظوا على انسجام موقفهم الذي كان الذهاب إلى صناديق الاقتراع يعرّضه لتناقض بنائي.
ثم لِم يذهبون للاقتراع في انتخابات محسومة نتائجها سلفاً لمصلحة لائحة فاز نحو نصف أعضائها بالتزكية من دون أي تنافس، فيما ضمن الباقون فيها فوزاً سهلاً أكيداً في تنافس غير متكافئ إذا صح اعتباره تنافساً من الأصل؟!
وليست لائحة "تيار الم