قد لا ننفك مباشرة من التساؤل ونحن نشرع في اطلاع سريع على كتاب "نقد العقل التعارفي" لمؤلفه الدكتور رسول محمد رسول؛ عما إذا كان الأمر - في منطوق العنوان وفحواه- يندرج في ظاهرة الاستخدام المفرط لدى بعض الكتاب العرب لمفاهيم كبرى وعامة مثل "العقل" و"الخطاب" و"الثقافة" و"الأيديولوجيا"... ومن ثم إدراجها في مركبات إضافية قلما تكون ذات موضوع أو دلالة على شيء محدد؟! وما المقصود أصلا بـ"العقل التعارفي"؟ وما الحاجة إلى ذلك التعبير بينما يتعلق الأمر بتجربة "التعارف الحضاري" التي تناولتها مقاربات عديدة بحثت فيما وراءها من مدركات ومفاهيم وقيم عقلية؟! وهل يأتي "نقد العقل" من باب التقليد الفلسفي الواسع الذي أرساه الألماني إيمانويل كانط منذ صدور كتابه "نقد العقل الخالص" في القرن الثامن عشر، ثم استوحى منه محمد عابد الجابري عناوين لثلاثة كتب شكلت أركان مشروعه الفكري الطموح؟ ولماذا يجب أن تنحصر فاعلية التعارف الثقافي والحضاري فيما هو موضوع للعقل ذاته، أي مفكر به صراحة أو ضمنا وقصدا؟! إزاء حزمة التساؤلات الآنفة يعتبر المؤلف أن التعارف الحضاري بحاجة إلى أن يكون له "عقله المفاهيمي وجهازه المصطلحي"، لكي "يؤسس كيانه على ما هو مفكر فيه"، لذلك يقرر الدخول في معترك تقديم رؤية نقدية لجدليات العقل التعارفي وحركته المتنافذة، ولصيرورة التلقي والتوصيل والتمثيل وإعادة الاتصال في هذا العقل. ولتحديد طبيعة وحجم الإشكالات التي يطرحها التعارف الحضاري، إن على مستوى الوعي أو الواقع، يبرز الدكتور رسول جملة من المتغيرات الأساسية في هذا الصدد، موضحا أن "متغيرات الواقع غالبة وأكثر في تأثيرها على تحولات وتموضعات المفهوم (التعارف) وخطابه، كذلك على منظومة الفهم العربية الراهنة له، وعلى ذهنية هذا الفهم، ومن ثم على الخطاب الذي ينتجه العرب في فضاء التعارف الحضاري...". ولعل العقل التعارفي العربي- الإسلامي خاصة يواجه مصادر تأثير وإكراه كبرى من خارجه هي المتغيرات الأساسية للعصر الحالي ذاته؛ فثورة الاتصالات متجسدة في منجزاتها الرقمية وفي مجال التبادل المعلوماتي، مثلت مصدر حركية نشطة للتعارف الحضاري والثقافي، وأثرت على أوضاع المجتمعات العربية وطبيعة نظرتها إلى الآخر. كما رافق ثورة الاتصال تحول واضح في بنية الثقافة المعاصرة التي تمحورت حول فكرة الصورة أو النمط البصري العابر والمرئي والسريع، لكن مع ذلك ظل الوجه السياسي للثقافة العربية متحكما كمخيال للتلقي ومتأصلا كفضاء للتعامل مع المختلف والمغاير. ومن منظور المتغير الاستراتيجي، مثلت أحداث 11 سبتمبر محفزات اندفاع نحو مديات قصوى في مواجهة الإسلام السياسي المتعولم، الأمر الذي نقل التعارف الحضاري من حيز الحوار المفترض إلى مجال الصدام المعلن!
ويتطرق المؤلف إلى موجهات الفهم العربي، مستعرضا بعض أهم العوامل التي انعكست على مجمل الرؤية العربية الإسلامية للآخر، حيث يرى أن انقطاع الصلة في الثقافة الإسلامية التقليدية، بين النص والواقع ومن ثم غياب التفاعل مع العالم الخارجي ومستجداته ومتغيراته، أدى إلى ضعف التواصل مع الآخر! كما أدت غلبة الأيديولوجيا "الثورية" في القرن العشرين إلى تأصيل نزعة العداء ضد الآخر أو المختلف لدى شرائح كبيرة في المجتمع العربي. لكن المؤلف يستدرك ذاكرا نماذج من الماضي لتجارب المثاقفة التي خاض العرب غمارها متمثلين المرجعية القرآنية في التعارف والانفتاح والتنافذ مع ثقافات الأمم والشعوب الأخرى، "حتى أصبح لنا في تراثنا نماذج شتى للمثاقفة تعد قطاعا معرفيا مهما نمت في مضاميره الدراسات النقدية والتاريخية المقارنة". ومع مطلع العصر الحديث وجد فكر المثاقفة طريقه مجددا إلى قراءة الواقع العربي، فبات لمسألة العلاقة بين "الذات" و"الآخر"، "الأنا" و"الغير" حضورها الفاعل، ثم أخذ ذلك الفكر "مساراته المعرفية إلى حيز التنظير والبناء الفكري بعد هزيمة 1967"، وقدم المفكرون العرب مقاربات للبحث في العلاقة بين العرب وغيرهم، وأوجدوا استشراقا مضادا، وقدموا نقدا منهجيا وموضوعيا لمركزية الذات الغربية ونظيرتها الإسلامية المضادة، مما يعني أننا بصدد تأسيس جديد لمثاقفة تنهل من عقل التعارف.
ويتطرق المؤلف إلى الانعطافة الحادة في علاقة الغرب والإسلام أو "صدمة المثاقفة"، لينبه إلى أن هجمات 11 سبتمبر بقدر ما كان لها من توابع سياسية وعسكرية مباشرة ومؤثرة، فقد كرست ارتجاجا عنيفا في علاقة المثاقفة بين الغرب والإسلام. ذلك أن "عقد التحول" الذي أعقب حرب الخليج الثانية، شهد رؤى جديدة في الأوساط الفكرية الغربية المعنية بعلاقة الإسلام مع الغرب، حيث عبرت هذه الرؤى عن موقف متفائل إزاء "إسلام الموجة الثالثة"، بمعزل عن التأثير المباشر لمقولات الاستشراق التقليدي ومنطقه الاستعلائي. فيما نشطت على الجانب الإسلامي، دعوات من قبل المفكرين والمؤسسات الرسمية الكبرى إلى "حوار الحضارات" أو "حوار الثقافات"، في مواجهة أطروحتي "نهاية التاريخ" و"صدام الحضارات" كصياغتين أميركيتي