منذ عدة قرون كتب ابن خلدون في مقدمته أوصافاً اجتماعية للبداوة, منها أنها عبارة عن تجمعات بشرية متوحّشة، أنسَت لحياة وأسباب التوحش التي تعني بالنسبة لأفرادها التحرر من أية سلطة. ومنها أنها جماعات لا يعنيها القانون ولا النظام الذي يمنع أفرادها من الاعتداء على الآخرين أو المساهمة في حمايتهم. ومنها حبّهم الاستيلاء على الأملاك عن طريق القوة والسّلب. وانتهى بالقول إن العمران ينتهي عندما يستطيع البدو النجاح في غزو المدن والاستيلاء على السلطة. عبر القرون ظهرت صحّة مقولات ابن خلدون فعانت مدن العرب والمسلمين الأمرّين من هجرات البدو وساكني الأرياف إليها. ولما كانت العلاقات الاجتماعية لهذه الجماعات قائمة على العصبية، وكانت حياتهم حياة شظف العيش فإن كل ذلك هيأهم للعب أدوار سلبية في حياة المدن التي انتقلوا إليها وجعل منهم قوة اجتماعية قابلة للاستعمال والاستغلال من قبل المغامرين والطامعين في الاستيلاء على السلطة. وفي مدن العرب الكبرى اليوم تستمر تلك الظاهرة في الوجود حتى ولو أخذت بعض تجلياتها مظهراً حديثاً هنا أو هناك. ولعلّ أصدق التجليات هو ما نشاهده في كثير من مدن مجلس التعاون. ولنذكر مثلين لتوضيح ذلك:
أولاً, في الحياة السياسية، وبعد أن بدأت تنتقل دول مجلس التعاون إلى نوع من النظام السياسي الديمقراطي المحدود، بدأت الأنظمة تلعب بورقة المهاجرين أو المهجّرين البدو وساكني الأرياف. البعض يستعملهم لإيجاد توازنات انتخابية والبعض الآخر يأتي بهم لإيجاد توازنات إثنية أو دينية. وهناك من يستعملهم لتهديد الحياة المدنية برمّتها من خلال توظيفهم كمرتزقة وأزلام في هذه المؤسسة أو تلك. وما أشبه الليلة بالبارحة، إذ فعلها من قبل الخلفاء العباسيون عندما جاءوا بالمرتزقة الأتراك وغيرهم لحمايتهم من المعارضين والثائرين عبر إمبراطورية الإسلام, فكانت النتيجة وبالاً على الحكم والحكام وكل مظاهر التقدم والتمدن.
ثانياً, في الحياة الاجتماعية بدأت تظهر آثار تواجد البداوة والريف في تبدّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّل العادات في بعض حقول محدَّدة. فمثلاً كانت هناك مدن خليجية يُضرب المثل بحسن نظام السّير على طرقاتها. اليوم، وبعد أن أصبحت مدن جذب لسياح البوادي والأرياف، انقلب السّير فيها إلى فوضى عارمة تشبه ساحات سباقات الإبل. لقد استطاع أولئك البسطاء من خارج المدن قلب العادات المتمدنة إلى عادات متوحّشة، تماماً كما وضفها ابن خلدون بعبقرية الملاحظ الناقد. ولا يسمح المجال بذكر تفاصيل تأثير هؤلاء الزاحفين على العديد من الأنظمة والعادات الاجتماعية من مثل انتشار الزواج اللامسؤول اللاأخلاقي، أو احتدام التضييق على الحرية الفردية وعلى الأخص حريات النساء، أو الازدياد المطَّرد لحوادث العنف غير المبرَّر أو النّهب العشوائي، أو الابتذال في سوق العقارات والبناء. وبالطبع فإن كل تلك التأثيرات تشير إلى تدهور مستمر في المستوى الحضاري لحياة المدن يساهم هؤلاء بقسط وافر منه.
ليس كل ما ذكرنا وما لم نذكر هو دليل قصور ذاتي في حياة البوادي والأرياف. ولكنه، وعلى الأخص في أيامنا، ناتج حتماً عن الإهمال المخجل الذي يُمارس من قبل الغالبية من الأنظمة العربية تجاه سكان تلك المناطق. إن الإهمال في حقول الصحة والتربية والتعليم والنشاطات الثقافية والتنمية الاقتصادية والنظام السياسي المحلي يبقي أفراد تلك المجتمعات في أوضاع معيشية وفكرية واجتماعية دون مستوى أوضاع ساكني المدن. إن حماية مدننا من الانحلال التدريجي وسدّ الطريق أمام استغلال ساكني البوادي والأرياف في ألعاب السياسة الملتوية يمرّ من ساحة التوزيع العادل للثروات والإمكانيات والفرص بين المدن والتجمعات المحيطة بها.