يحلو للكثيرين تقسيم الصحة العقلية إلى حالتين متباينتين، إما سليمة كما في حالة الشخص العاقل المتزن، أو مختلة كما لدى الشخص المضطرب عقلياً. هذا التقسيم بالغ البساطة، وخاطئ أيضاً إلى حد كبير. فلا يمكننا أن نصف عملية بالغة التعقيد، مثل الوظائف العقلية البشرية، على أنها إما أبيض أو أسود فقط. فطبيعة العمليات العقلية المعقدة والمتشابكة، تتطلب أن يوصف اتزانها أو اختلالها من خلال مقياس متصل، يسمح بالتعبير عن حالات متقاربة ومتشابهة. فالوصف الحالي للوظائف العقلية بأنها سليمة أو مضطربة، لا يختلف كثيرا عن وصف سيارة بأنها متوقفة أو في حالة حركة. مثل هذا الوصف - رغم أنه يمنحنا معلومة أساسية ومهمة- إلا أنه لا يظهر لنا مقدار السرعة التي تتحرك بها السيارة، أو الاتجاه الذي تتحرك فيه. وما نحن في حاجة إليه على صعيد وصف الحالة العقلية، هو عدّاد شبيه بعداد الكيلومترات في السيارات، يظهر لنا طيفا كاملا من الاتزان والاختلال، ويمكننا من التفرقة بين درجات متقاربة ومتشابهة من الاتزان أو الاضطراب العقلي. هذا التوصيف لن تقتصر فائدته على التطبيقات المرضية فقط، بل يمكن أن تتعداها أيضا إلى الحالة الصحية، وبالتحديد في ما يعرف بمفهوم العافية العقلية (Mental Wellness). هذا المفهوم ينظر إلى الصحة العقلية، تماما كما ننظر للياقة الجسدية لدى الأشخاص الأصحاء. فكما يمكن أن تختلف مستويات اللياقة الجسدية بين شخصين يتمتعان بصحة كاملة، يمكن أيضا أن تختلف اللياقة أو العافية الذهنية بين شخصين يتمتعان بصحة عقلية كاملة. ولا نقصد هنا الاختلاف المعروف بين الأشخاص على مستوى الذكاء، وإنما نعني العمليات العقلية النفسية الأخرى. مثل درجة الاستمتاع بالحياة، والقدرة على التكيف مع المتغيرات في البيئة الاجتماعية والنفسية، والتوازن في أداء المسؤوليات والواجبات، والحصول على الحقوق والملذات في إطار شرعي قانوني، مع المرونة النفسية والشخصية، والقدرة على تحقيق الذات. هذه الوظائف تختلف القدرات على أدائها بين الأصحاء، وهو ما يفتح الباب لزيادة نصيب الفرد منها، تماما كما تقوم التمارين الرياضية بزيادة اللياقة البدنية لمن ينتظمون على ممارستها. وبالفعل أصبح هذا المجال صناعة كاملة، تؤلف فيها الكتب، وتعقد فيها المحاضرات والندوات، وتباع فيها الأشرطة السمعية والبصرية، من قبل من يصفون أنفسهم باستشاريي تحسين السلوك وصقل الشخصية.
هذا عن الأصحاء. ولكن ماذا عن المرضى؟ وخصوصا مع إدراك الأطباء لمدى انتشار الأمراض العقلية، والتي أصبحت تنتشر إلى حد كبير، وبشكل أكبر في الحقيقة مما كان يخطر على بال الكثيرين. فعلى سبيل المثال، تعتبر الاضطرابات العقلية الكبرى مثل الاكتئاب الشديد، والوسواس القهري، والشيزوفرينيا أو الفصام، من أكثر أسباب الإعاقة الصحية انتشاراً على الإطلاق في الولايات المتحدة. وهو ما يعني أن الأمراض العقلية تتسبب في إعاقة عدد أكبر من الأميركيين، ممن تتسبب في إعاقتهم أمراض أخرى واسعة الانتشار مثل السرطان وأمراض القلب. والمقصود بالإعاقة هنا ليس الإعاقة الحركية المتعارف عليها، بل التداخل والانتقاص من قدرة الشخص على تأدية وظائف حياته اليومية، والعجز عن الوفاء بواجباته العائلية والمهنية. هذه الحقيقة نص عليها تقرير صدر عن لجنة صحية خاصة، تتبع الرئيس الأميركي مباشرة (New Freedom Commission on Mental Health) . ويؤكد هذا الوضع إحصائيات ودراسات جهة خيرية أخرى تعمل في مجال الصحة العقلية (National Alliance for the Mentally Ill)، والتي تظهر أن ثلاثة وعشرين في المئة من البالغين في أميركا الشمالية، يتعرضون سنوياً لنوع أو آخر من الاضطرابات العقلية. وإن كانت حدة الأعراض ستبلغ لدى نصف هؤلاء فقط درجة من الشدة، يمكنها أن تؤثر معها سلبا على حياتهم اليومية. وهو ما يعني في نفس الوقت أن إحدى عشر في المئة من البالغين في قارة أميركا الشمالية، يتعرضون سنوياً لنوع أو آخر من الاضطرابات العقلية، التي تكون حدة أعراضها من الشدة، إلى درجة تؤثر على قدرتهم على القيام بوظائف حياتهم اليومية! ولا يختلف الوضع كثيراً في بريطانيا، حيث تشير التقديرات إلى أن اضطرابات الشخصية تصيب ثلاثة عشر في المئة من السكان، ويصيب الاكتئاب فقط واحداً من كل خمسة بريطانيين خلال فترة ما من حياتهم. وتشير التقديرات أيضا إلى أن الاكتئاب يكلف الاقتصاد البريطاني أكثر من ثمانية مليارات جنيه استرليني سنوياً، أو ما يعادل ستة وخمسين مليار درهم سنوياً، تنفق على الأدوية والعقاقير، وساعات العلاج النفسي، وفترات الإجازات المرضية، والتي تعتبر أياماً مفقودة من الإنتاجية العامة.
ولا يقتصر الأمر على ازدياد عدد المرضى فقط، بل ازداد أيضا عدد الأمراض نفسها. ففي بداية القرن العشرين، كان عدد الأمراض النفسية لا يزيد على اثني عشر مرضاً، وبحلول عام 1952 زاد عدد الأمراض النفسية ليصل إلى 192 مرضاً. ومؤخراً ومع صدور الطبعة الرابعة من كتاب تصنيف وتشخيص الأمراض العقلية (Diagno