توصل ليبيا إلى تسوية ترفع عنها العقوبات الدولية وتغلق ملف أزمة تفجير طائرة بان أميركان فوق قرية لوكربي الأسكتلندية يؤذن بطي صفحة محرجة وحزينة وبدء عهد جديد لعلاقة طرابلس الغرب مع العالم الغربي· كما أن التسوية المالية الإضافية لضحايا طائرة يوتا الفرنسية تعّبر عن تصميم ليبيا على إغلاق صفحة المغامرات السابقة وإداركاً متنامياً منها أنه لا مكان لمثل هذه العمليات في عالم يسيطر عليه قطب أحادي ولا يوجد به هامش مناورة يستفيد منه المغامر·
ومع هذا نجد أن بعض حماس وبعض ثورية طرابلس ما زالت باقية ولكن يبدو أنها أكثر وضوحاً أمام الشقيق العربي كلبنان والمملكة العربية السعودية فيبقى الخطاب أكثر حدة ويبقى التنظير أكثر بروزاً·
ومع الترحيب بالتوجه الليبي الجديد والعقلانية التي بدت بارزة في التعامل مع المراحل الأخيرة من ملف لوكربي، إلا أننا لابد من أن نتساءل حول كشف حساب شامل يغطي سياسات وممارسات مرحلة مرت، آخذين بعين الاعتبار نتائج هذه المغامرات·
ومثل هذا الكشف لا يقتصر على ليبيا، بل يجب أن يشمل دولاً عربية كثيرة سعت إلى أدلجة العالم العربي ودخلت مواجهات دموية ومدمرة في عالمها وأخرى مسرحية كيشوتية مع الغرب· جمهوريات شاخت دون أن تتعقلن ومارست السياسة دون أن تنضج، وفي مسيرتها إلى الوراء كرست قيم الرأي الواحد ومارست القمع وقضت على الاقتصاد وخافت من التكنولوجيا وسعت إلى سلطة الأسرة والعشيرة والحزب· ومثل هذا الكشف ضروري لأنه يحاسب مرحلة ما زال العرب يدفعون ثمن فواتيرها غالياً، فلا يجوز ولا يمكن أن ننتقل إلى المستقبل دون أن نعتبر مما مضى، بل ومن الضروري أن نفحص وأن نعاين العديد من المصطلحات التي اختزلت السياسة والحكم وغطت على شحّ الانجاز، وأن نبحث عن المقاومة والصمود والكرامة التي تبجحت بها هذه الجمهوريات الثورية، ونسأل عن مدى نجاح صمودها وعن الكرامة التي كانت تقصدها وهي التي امتهنت كرامة مواطنيها وبصفة يومية·
نعم لا يمكن أن نتحرك إيجابياً وإلى الأمام دون أن نتعلم من ممارساتنا السابقة بروح ناقدة وعين فاحصة، وللأسف نكتشف أن التصريحات الرسمية الليبية والمبرّرة لصفقة لوكربي بعيدة كل البعد عن هذا المنهج· فالنقد الذاتي للممارسات السابقة غير وارد إطلاقاً وأخطاء الماضي لا حلّ لها سوى المال، ولا يعني ذلك أننا لا نتفق مع أولوية طيّ هذه الصفحة وعودة طرابلس إلى المجتمع الدولي، ولكن مثل هذه الخطوة كان الأجدر بها أن تكون ضمن تحرك أعمق ونقد ذاتي لتوجه ميّز علاقات ليبيا الخارجية، ومن خلال حرية ممارسة هذا النقد تستفيد ليبيا ويستفيد عالمنا العربي· ولكن، وبكل مرارة، يبدو أن تقاليدنا الراسخة بجذورها في تمجيد الرأي الأوحد والمؤمنة بالقرار الصادر من أعلى، تبقى سائدة وغالبة·
أما العودة إلى الفشل الماضي وتقييم تجاربه فيحتاج إلى معايير لا تحتمل التأويل· فكيف نقرّ بأن هذا التوجه أو تلك السياسة كانت فاشلة؟ وكيف نقرر أن تضحيات المواطنين كانت ضرورية لتحقيق هذا الهدف أو نجاح ذلك النهج؟
والإجابة السهلة المبسطة أن المقاييس والمعايير التي لابد من الالتزام بها بسيطة ومباشرة وبعيدة كل البعد عن هلامية الشعارات وفراغها من المحتوى· فالمطلوب في كل المقاييس والمعايير ما حققته تلك السياسات والتوجهات للمواطن العربي سواء كان ليبياً أو إماراتياً أو سعودياً أو عراقياً؟ وكم دخله وراتبه؟ وماذا عن غذائه ومستقبل أولاده؟ وهل يسود مجتمعه قضاء حر ومستقل؟وهل هو مهدد في رزقه ورأيه وحريته؟ وماذا عن حريته وقدرته على التنقل والسفر؟ وهل يعيش في مجتمع يتحكم فيه الفساد المالي والإداري؟ وماذا عن حقه في التعبير عن رأيه بكل حرية ودون خوف أو قلق؟ وهل يحترم نظامه إنسانيته؟
أسئلة مثل هذه وغيرها هي التي تقرر إن كان عالمنا العربي قادراً على الانتقال إلى مرحلة جديدة، فأهم من مواجهة الغرب والعالم مواجهة الذات ومراجعة ممارسات الماضي·