ما هي الشخصية؟ ولماذا تضطرب؟ وهل من الممكن علاج أمراضها؟ هذه الأسئلة تشكل محل خلاف وجدل شديدين، يقدح الأطباء والعلماء أذهانهم في محاولة للتوصل إلى إجابات شافية لها. ففي علم النفس، يستخدم تعبير "الشخصية" للدلالة على مجموع الصفات العاطفية العقلية والسلوكية، المميزة للشخص عن الآخرين. ولكن رغم هذا التعريف المبسط، يوجد اختلاف كبير بين علماء النفس، عبر العديد من النظريات والأفكار، التي يحاول كل منها وضع تفسير للعلاقة بين الشخصية وبين غيرها من الصفات والمكونات النفسية. وكما تمرض أعضاء وأجهزة الجسم الأخرى، تمرض أيضاً وتضطرب الشخصية. وينظر الأطباء لاضطرابات الشخصية، على أنها نوع من الاضطرابات العقلية، المتميزة بنمط غير مرن من التفكير والسلوك، الدائم التكرار. وبسبب عدم المرونة، والسيطرة التامة لتلك الأنماط السلوكية، تتسبب عواقبها في مشاكل خطيرة للشخص المصاب بها. وتختلف وتتنوع اضطرابات الشخصية، إلى درجة أنها تقسم إلى عدة مجموعات، تندرج تحت كل منها قائمة طويلة من الأمراض. أحد أشهر تلك الاضطرابات، ما يعرف بالسلوك غير الاجتماعي أو السلوك المعادي للمجتمع
(Antisocial personality disorder). وببساطة، يتميز هذا الاضطراب أو المرض النفسي، بسلوك قهري ضار بالمجتمع وبأفراده. وينتشر هذا المرض بشكل كبير، إلى درجة أنه يصيب ثلاثة في المئة من الرجال، وواحداً في المئة من النساء. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن عدد أفراد الجنس البشري يتخطى الستة مليارات شخص، فنستطيع أن ندرك بسهولة أن عدد مرضى السلوك غير الاجتماعي حول العالم، يزيد على بضعة ملايين مريض.
وقبل أن نستطرد في شرح صفات هذا الاضطراب، ومدى تأثيره السلبي على حياة الشخص والمجتمع ككل، يجب أن نتوقف قليلاً عند التسمية. فاستخدام تعبير مثل "السلوك غير الاجتماعي"، قد يفهمه البعض على أنه ميل للوحدة والعزلة، أو البعد عن الانخراط في طبقات وأجزاء المجتمع، أو السلوك بشكل لا يتوافق مع حدود اللياقة والأدب المتعارف عليها "الإيتيكيت". والحقيقة أن بعض تلك السلوكيات، تنخرط تحت ما يعرف بالقلق الاجتماعي (social anxiety). أما اضطراب السلوك غير الاجتماعي، موضوع هذا المقال، فهو اضطراب أخطر بكثير· فعلى سبيل المثال، رغم أن السلوك الإجرامي ليس من متطلبات التشخيص بالإصابة، إلا أن الكثير من هؤلاء الأشخاص يواجهون دائماً مشاكل قانونية، بسبب تجاهلهم للمقاييس الاجتماعية، وخصوصاً تلك المتعلقة بحقوق الآخرين. وكنتيجة حتمية لهذه الصفة، كثيراً ما ينتهي المطاف بالأشخاص المصابين بهذا الاضطراب في السجون· وإن كان يجب أن ننبه إلى أن السلوك الإجرامي، لا يعني بالضرورة الإصابة السابقة باضطراب السلوك غير الاجتماعي، والعكس صحيح· فتشخيص إصابة الشخص بهذا المرض، لا يعني أنه مجرم، أو أن نهايته المحتومة هي غياهب السجون. فالمدهش أن الكثير من الأشخاص فائقي النجاح في الحياة العلمية، أو في المجالات الأكاديمية، تظهر عليهم بعض صفات السلوك غير الاجتماعي· وهو ما جعل متطلبات التشخيص، وصفات المرض المتفق عليها بين الأطباء، عرضة للانتقادات الحادة والرفض من قبل الكثيرين. وإن كانت الدراسات العلمية الحديثة قد أظهرت، أن الأشخاص المصابين بمرض السلوك المضاد للمجتمع، لا يأبهون باحتمالات العقاب وما ينتج عنه من ألم، ولا تظهر عليهم أي من علامات الخوف والرهبة عند تهديدهم بالعقاب· هذه الصفة ربما تفسر عدم اكتراث هؤلاء الأشخاص بتبعات أفعالهم، وفقدانهم لأي إحساس بالشفقة أو بالتعاطف مع آلام ومعاناة الآخرين.
وتتفاقم مشكلة فهمنا لجوانب هذا المرض، وإدراكنا للصفات المميزة له، بسبب التحريف الذي تتسبب فيه الروايات والأُفلام السينمائية· ففي الثقافة العامة، والمكونة إلى حدٍ كبير في ظل تأثير الأفلام والروايات، يظهر مرضى السلوك المعادي للمجتمع بصفات، لا تتفق بالضرورة مع صفات مرضى الحياة الواقعية. فحسب هوليوود، يتميز هؤلاء الأشخاص بصفات، تجعلهم مناسبين للعب دور الشرير. من هذه الصفات، الذكاء الحاد، مع الميل للحصول على المتعة العقلية من خلال الموسيقى والفن، وغالباً ما يتميز هؤلاء الأشخاص -حسب الأفلام- بنوع من الغرور، والميل إلى التأنق في الملبس والمظهر. بالإضافة إلى تميزهم بالنجاح العملي أو العلمي، والمترافق بشخصية هادئة دقيقة الحساب، وفي إطار من التحكم الدائم في الأحداث والأشخاص· هذه الصفات بلا شك، لا تتوافق مع شخصية المصاب بالسلوك غير الاجتماعي، حيث غالباً ما يكون هؤلاء الأشخاص مندفعين في تصرفاتهم، قليلي التنظيم، مع تميزهم بسرعة الغضب واللجوء للعنف. ولا يقتصر الاختلاف في وصف مرضى السلوك غير الاجتماعي بين السينما والوسط العلمي فقط، بل يمتد أيضاً إلى داخل الأوساط العلمية نفسها، لنجد معايير وتوصيات تختلف اختلافاً بيناً، وبين الجهات العلمية المرموقة· ولا يمكن أن نستثني من هذا الاختلاف، النظريات الساعية إلى تفسير سبب هذا المرض. آخر تلك النظريات، صدر عن العلماء المتخصصين في ما يعرف بعلم ال